خارج الحدود

نتائج الانتخابات الأسبانية بعثرت أوراق اليسار وقلبت ترتيب أحزاب اليمين..

الرياط اليوم

الدكتور عبد الله بوصوف

لاازال التشويق هو الطابع الغالب على المشهد السياسي باسبانيا لـدرجة يصعب معها تصديق مجريات الأحداث و مواكبة وثيرة تسارعها ، وهو ما بـرر المتابعة الإعلامية الكبيرة على المستوى العالمي لتشريعيات يوم 10 نوفمبر 2019 باسبانيا ، في نسختها الرابعة و داخل أربعة سنوات (منذ دجنبر 2015 ) في مشهد استثنائي في اروربا …

لــقـد دُعـي 37 مليون ناخب إسباني إلى انتخابات مبكرة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية ، تُــولـد من رحمها حكومة وطنية طــال انتظـارهـا.. واتفــق اغلب المحللين على ان تشريعيات يوم الأحد 10 نوفمبر عرفت أولا ، تموقع حزب الاشتراكي بيدور شانسيز في صدارة النتائج ب 120 مقعدا ، خاسرا ثلاثة مقاعد بالنسبة لتشريعيات ابريل 2019 ، ثانيا تعافي شعبية الحزب الشعبي المحافظ في عهد بابلو كاسادو بحصوله على 88 مقعد مقابل 66 مقعد في ابريل الماضي ، ثالثا الصعود الصاروخي لحزب فوكس اليميني المتطرف و الذي يعتبر امتداد عهـد ” الكوديللو ” أي الجنرال فرانكو بحصوله على 52 مقعد مقابل 24 مقعد في ابريل ، و رابعا فهو الزلزال بحزب المواطنون من وسط اليمين و حصوله على 10 مقاعد مقابل 47 في ابريل الماضي….و أخيرا تراجع حزب بوديموس من 42 مقعد إلى 35 مقعد….

لم يكن سهلا توقع هذه النتائج ، خاصة وان الاشتراكي شانسيز خرج فائزا في انتخابات ابريل و ماي ، و بالتالي كان يتوفر على رصيد كبير من الثقة السياسية سواء بالداخل أو على مستوى الاتحاد الأوروبي، حيث بدى مستعدا للعب دورا كبيرا إلى جانب كل من ميركل و ماكرون في سياسات الاتحاد الأوروبي .
و قــد أظهرت هذه النتائج ان جميع الأحزاب بقيت بعيدة عن الأغلبية المطلقة أي 176 مقعدا، وهو ما يعني فشل رهان الحزب الاشتراكي على هذه الانتخابات من اجل توسيع قاعدته الانتخابية و الحصول على أغلبية مريحة تمكنه من تشكيل حكومة بدون تحالفات متعددة ، كما كان من نتائجها تآكل القوة التفاوضية للاشتراكي شانسيز ، و ظهر سانتياغو اباسكال زعيم حزب ” فوكس ” الرابح الأكبر لهذه الانتخابات حيث ضاعف رصيده من المقاعد البرلمانية و أزاح حزب المواطنون من الرتبة الثالثة مما اضطر معه زعيمه ألبير ريفيرا من تقديم استقالته في اليوم الموالي أي 11 نوفمبر…

فهل بالـغ سانشيز في تقديره لـقوته السياسية خاصة بعد النتائج الإيجابية لـتشريعيات ابريل و الانتخابات الأوروبية في شهر ماي 2019 ..؟
وهل لم يستحضر نتائج مغامرة سياسية ، كان في غنى عنها بقبوله لحزب بوديموس كحليف سياسي حقيقي و شريك فعلي في الحكومة…؟

كطلونيا و رُفـاة فرانكو ، مفاتيح السياسة و الذاكرة الوطنية….

نعتقد من جهة أولى ، ان المسالة الكطلونية لعبت دورا كبيرا في بعثرة كل أوراق الاشتراكي شانسيز ، و تحديدا بعد نطــق المحكمة العليا الأسبانية بأحكام ضد قادة الانفصال الكطلان يوم 14 أكتوبر بصك اتهام ثقيل من حجم التمرد و تبديد أموال عمومية في تنظيم استفتاء الانفصال و بأحكام تجاوزت عشرة سنوات…و هو ما جعل أنصار تيار الانفصال ينضمون مسيرات احتجاجية و يشلون الحركة في إقليم كطلونيا و يــدعون إلى عصيان مدني و افشال الانتخابات التشريعية ليوم 10 نوفمبر.
كما ظهرت حركة ” تسونامي الديمقراطي ” و التي اعتمدت على منصات إلكترونية في تنظيم مسيراتها و طرق احتجاجاتها ، ردت عليها مدريد بإصدار عدة قرارات من بينها تأجيل الكلاسيكي الكروي بين الريال و برشلونة و بدعم قوات الأمن و بتنظيم مسيرات مضادة من طرف تيار الوحدويين الكطلانيين …وهو ما جعل الاشتراكي شانسيز في موقع سيئ أمام الكطلان رغم دعواته المتكررة للحوار و أيضا أمام الأسبان في أسلوبه المتردد في تدبير مسألة كطلونيا…

في حين امسك زعيم حزب فوكس سانتياغو اباسكال بجمرة المسألة الكطلونية و أبدى الكثير من الحزم في الموقف من أولوية وحدة اسبانيا و تطبيق الدستور ، فوضوح الرؤية لدى اباسكال و تردد سانشيز ساهم كثيرا في الرفع من اسهم حزب فوكس كحزب وحدوي إسباني بالإضافة إلى ترديــده ” تيمات ” اليمين المتطرف أي وقف هجرة المسلمين إلى أوروبا المسيحية و مواقفها في مسالة الإجهاض و الأسرة… وهو ما جعل من حزبه الثالث وطنيا و الأول في مورسيا مثلا و بأربعة نواب في البرلمان الأوروبي … هـذا رغم دعـوة شانسيز للذهاب إلى صناديق الاقتراع لمحاصرة تهديد اليمين المتطرف…

فالمسألة الكطلونية أصبحت رقما صعبا في أي تمرين انتخابي في اسبانيا و هو ما افرزته نتائج يوم 10 نوفمبر حيث حصلت الأحزاب الاستقلالية بكطلونيا على 23 مقعد ، مما يجعل منها لاعبًا أساسيًا في أي عملية بنـاء أو الاطاحـة باي تحالف سياسي و حزبي على المستوى الوطني…

ومن جهة ثانية ، فقد ساهم ” التعامل الانتخابي ” للحزب الاشتراكي الحاكم في اسبانيا مع قرار المحكمة العليا الأسبانية بقبول نقل رفاة الجنرال فرانكو من مقبرة شهداء الحرب الأهلية الأسبانية إلى مقبرة العائلة بعد سنة ونصف من الجدال القانوني و القضائي ، في تفوق نسبي لليمين و اليمين المتطرف في النقاشات المتعلقة بالذاكرة الجماعية و المصالحة الوطنية.

فقد اعتبر اكثر من ملاحظ ان استعمال مسالة نقل رفاة الجنرال فرانكو كورقة انتخابية و سياسية ، شكل خرقا من شانسيز “لاتفاق النسيان ” الذي سهل الانتقال الديمقراطي بعد موت الجنرال فرانكو ، و ان شانسيز قد عرى عن جرح قديم يحاول الأسبان نسيانه بعد مرور اكثر من 44 سنة على وفاة الجنرال الذي أمر ببناء مدفن جماعي لحوالي 33الف من ضحايا الحرب الأهلية الأسبانية سواء من هذا الجانب أو من ذاك على سفح الجبل كرمز للمصالحة الوطنية…

ولم تكن هذه الفرصة السياسية لتمر دون ان يستعملها زعيم حزب فوكس اليميني المتطرف في كسب أصوات جديدة ، و قد اعتبر اباسكال ان قرار شانسيز بنقل رفاة الجنرال فرانكو من مقبرة شهداء الحرب الأهلية يحمل في طياته الرغبة في إحياء أحقاد قديمة و خرق لاتفاق النسيان ، و قد تمكن حزب فوكس بتبنيه الدفاع عن الذاكرة الوطنية من خلال الدفاع عن رفاة الجنرال فرانكو ، من جني أصوات من الحزب الشعبي المحافظ ، كما استمال أصواتًا كثيرة من ناخبي وسط اليمين خاصة من حزب المواطنون ، بعد إعلانهم فتح قنوات الحوار مع شانسيز إبان مفاوضات تشكيل الحكومة…

نعتقد ان الملف الكطلاني و نقل رفاة الجنرال فرانكو ، كان لهما دورا محوريا في ترجيح كفة اليمين و اليمين المتطرف في انتخابات 10 نوفمبر ، حيث استغل اليمين المتطرف ممثلا في حزب فوكس هاتين المسألتين لتقوية خطابه الكلاسيكي المتمثل في وقف هجرة المسلمين إلى أوروبا المسيحية ومواقفه في مسالة الإجهاض و الأسرة …
و في المقابل فقد ترتب عن انشغال الاشتراكي شانسيز بتدبير أزمة كطلونيا خاصة بعد الأحكام القضائية ، بالإضافة إلى انشغاله بتداعيات نقل رفاة الجنرال فرانكو ، ارتباك كبير في تنظيم الحملة الانتخابية التي دامت 10 أيام فقط وهي اقصر مدة في تاريخ الديمقراطية الأسبانية… بينما انشغل حزب بوديموس في نفس الوقت في ترتيبات رأب تصدعه الداخلي و انشقاقه بميلاد تيــار حزبي جديــد عنه فـاز بثلاث مقاعد يـــوم 10 نوفمبر…

إلا أن سُـرعة تحرك كل من الحزب الاشتراكي و بوديموس بتوقيعهما اتفاق للتحالف التقدمي لمدة أربعة سنوات ، بعد مرور اقل من 48 ساعة عن الانتخابات ، من أجل تسهيل تشكيل حكومة يسارية تقدمية لمواجهة اليمين المتطرف ، قــد تكون خطوة تُعيــد الثقة إلى مكونات اليسار ، مع العلم ان ذلك لن يمكنه من أغلبية عددية في البرلمان ، لكنها في نفس الوقت قــد تستعمل كذريعة لمهاجمة بيدور شانسيز حول فرضيات انفتاحه على اليسار الكطلاني الداعم للانفصال..

و في انتظار تكليف الملك الأسباني فيليب السادس لشانسيز بالبديء بمفاوضات تشكيل الحكومة و تنظيم الغرف البرلمانية ، فان الوضع السياسي الراهن يدفع بطرح العديد من الأسئلة ومن جملتها ماهي نسبة نجاح شانسيز في تكوين تحالف حكومي يحضى بثقة البرلمان خاصة بعد تآكل قوته التفاوضية ..؟ و هل سيختار الحزب الشعبي الامتناع عن التصويت لإعطاء فرصة خلق حكومة شانسيز…؟ أم سنعيش نفس السيناريو الذي قد يدفع في اتجاه انتخابات مبكرة خامسة…؟

اننا نطرح هذه الأسئلة و نحاول فهم الصورة و تقريبها ، بالنظر لتواجد جالية مغربية مهمة تقارب المليون مهاجر مغربي في اسبانيا ، من بينهم آلاف الحاصلين علي الجنسية الأسبانية و بالتالي اعتبارهم كتلة ناخبة في اسبانيا يمكنها تغيير معادلات سياسية مهمة في اسبانيا..

ومن جهة أخرى ، فان تفاعلات المشهد السياسي الأسباني سلبا أو إيجابا تؤثر بكيفية أو بأخرى على الوضع الاجتماعي و الاقتصادي و الحقوقي لمغاربة اسبانيا ، خاصة مع صعود حزب فوكس اليميني المتطرف ، مما قــد يُـهدد حقوق مكتسبة أو تأجيل مطالب حقوقية أخرى لحوالي مليون مهاجر مغربي باسبانيا…و تجعلنا بالتالي أمام تحديات جديدة تتطلب منا المزيد من اليقظة و المزيد من العمل….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى