RABATTODAYالرئيسيةوطنية

يوميات الرباط اليوم.. يوم مات الملك الحسن التاني

قصص-مثيرة-لتنكر-الحسن-الثاني-ونزوله-للشارع_medium

الرباط اليوم: مولاي هشام

في ليلة الثاني و العشرين من يوليوز –و كنت حينها بباريس– تم إعلامي بأن عمي نقل للمستعجلات. و إستطعت أن أتصل بالمشرف على فريقه الطبي الذي أكد لي الخبر. أردت أن أركب طائرة خاصة و أعود للمغرب حالا. و لكن الحسن الثاني الذي كان حاضرا و عاقلا اخذ سماعة الهاتف ليقول لي “لا تستعجل و عد غدا على راحتك”. ثم ارجع الهاتف للطبيب لأسمعه يردد له: “قل له أن لا يقلق و أن يعود غدا بدون إستعجال” فحجزت إذن تذكرة للغد بعد الزوال. و يم الثالث و العشرين كنت اتغذى مع غسان سلامة حين تلقيت اتصالا هاتفيا من سيدي محمد و كنت آنذاك لم اكلمه منذ مدة طويلة.

فقال لي: “عمك متعب جدا. يجب أن تأتي” فاستقصيت تفاصيل اكثر فأجاب: “نحن بصدد محاولة إنقاذ بالمستشفى. لم أعلم إلا الوزير الأول و أنت لأسباب سياسية”. و في الواقع كان سيدي محمد يجهل أنني في باريس و في الصباح طلب من الشيخ زايد أن يرحلني من أبو ظبي إلى المغرب على وجه السرعة و أُرسلت لذلك طائرة هيليكوبتر لمنزلي في أبو ظبي دون جدوى.

وصلت للقصر حوالي الساعة السابعة و النصف مساأ و فهمت فورا أن الأمر إنتهى و ان الحسن الثاني مات. و فاجئتني حادثة على الخصوص: رأيت رجلي درك من الحراسة المقربة للملك يعنفان إدريس البصري في مكتب و على بعد امتار منهم، الجنرال حسني بنسليمان و بوشعيب عروب. و سمعت البصري يصرخ: “أوقفو هذا الإستفزاز. كفى! أنا هو وزير الداخلية” فإستفسرت الجنرال عروب فأجابني: “هذا فقط للإحتياط” فشرحت له ان مثل هذا التصرف له إنعكاس سلبي و أن صحافة العلم بأسره تترقبنا و إذا ما علمو بهذا سيعطي ذلك صورة مشينة عن الملكية. ولكن الملك مات و بدون حمايته وزيره الكبير يتلقى ضربات بعدما اعطى كثيرا منها.

و لاحقا، حين سيصبح الخصام شاملا مع M6، (كما سيلقب بسرعة الملك الجديد) تسائلت إذا ما كان ولي العهد قد أحضرني على وجه السرعة لكي أبايعه قبل أن يبعدني. و سألت نفسي هذا السؤال لأن حضوري، للذين يتذكرون تاريخ سلالتنا، كانت له دلالة مهمة. فبعد الموت المفاجئ لمحمد الخامس و بإنتظار تفسيرات بخصوص هذه الوفاة، كان والدي قد وقع عقد البيعة ولكنه رفض حضور المراسيم التي تلت. و لكن، و بعد استقصاء الأمر، تأكدت بأن M6 لم يكن يضمر شيئا لمنع التاريخ من إعادة نفسه. فقد استوثقت الأمر لدى الاطباء بمستشفى إبن سيناء و الوزير الاول. و كل ما قاله لي ولي العهد خلال إتصاله الهاتفي كان مطابقا للوقائع و في نهاية الدقة.

و على الساعة العاشرة ليلا، و بمعية الآخرين داخل بهو العرش، وقعت إذن عقد البيعة، لكن، دون أن أرتدي جلبابا. و كانت تلك طريقتي لكي أقول بأنني فقط عابر. وكنت الوحيد بالبدلة. هذا ليس إلا نقطة لباس ولكنها تترجم حدسي، و قناعتي المضمرة بأنه ستتم إزاحتي من هذا العالم. و في لقطة تفيد بالشيء الكثير عن المخزن: لا أحد كان معه قلم للتوقيع، حتى البروتوكول لم يفكر في ذلك. إنتظرت قليلا ثم، وسط حرج الجميع، اقترحت قلمي. البيعة، هذا النص الذي يجدد الولاء، وقعت إذن بمدادي.

[…]

و في الساعات التي تلت وفاة الحسن الثاني كنا حوالي الخمسين الذين مثلو القوى الحية للوطن: الأمراء، مولاي رشيد و أخي و أنا، الوزراء و كبراء موظفي الدولة، كبار الضباط و العلماء.

و فيما بعد تم لومي لانني قبلت ابن عمي، الملك الجديد، عوض تقبيل يده. فعلت ذلك بعفوية و في شجون اللحظة. و لكن صحيح أنني كنت أعتبر، و منذ زمن بعيد، أن تقبيل يد الملك عن ظهر قلب، تصرفا مهينا وجب التخلص منه. و لأنني لم أقبل يد الحسن الثاني عن ظهر قلب، أظهر الأخير ضيقا مني لمدة ستة أشهر. و لم أفهم سبب ذلك حينها إلا بعدما شرحه لي الأمير سيدي محمد. بالنسبة لي، لا فرق بين تقبيل يد الملك من جهة أو جهتين. و لكن بالنسبة للحسن الثاني، كان هذا من الطقوس الأساسية. و حين كان غاضبا على أحدهم، كان العقاب الأسمى أن لا يعطيه يده كي يقبلها و ذلك بسحبها قبل أن يتمكن من الإمساك بها. و قد خصني الحسن الثاني بعقوبة تكاد تكون أقل خطورة حيث مدني كفه مقبوضا و لزمني أن أجر أنامله لفتح يده. و هكذا كان تقبيل يد إشارة معبرة في طلاسم الحكم. فيد متروكة للخديم كانت فألا جيدا، و يد تُسترجع بسرعة كانت إشارة على عدم رضى.

و خلال حكومة التناوب، حين علم الحسن الثاني أن عبد الرحمان اليوسفي لن يقبل يده، إستقبله الملك بذراعين مفتوحين…و بالنسبة ل الصديق بلياماني، نائب رئيس بونيغ، أخذ الحسن الثاني المبادرة و قال للمسؤولين عن البروتوكول: “قولو له أن سيدنا فخور بنجاحه و يأمره بأن لا يقبل يده”. فكان الحسن الثاني بارعا في إستعمال طقس الإذعان هذا، و قد واصل إبنه على هذا المنوال منذ أن لبس نعال الحكم.

و حين خروجي من مراسيم البيعة، تناقشت مع عشرات من المعارضين منهم محمد بوستة زعيم حزب الإستقلال. فهذا الرجل الذي شاخ في السياسة المغربية و كان براغماتيا و ذو حس فكاهي، إستوقفني قائلا: “ما هذه الطقوس البالية؟ كان الأولى أن تتم هذه الأمور في البرلمان! سوف ترى نتائج هذا”. فدافعت عن الملكية قائلا: “لا يمكننا أن نبدأ الإصلاح بالتشكيك في سلطة الملك. يجب أولا أن يثبت ركائز حكمه”. و كنت الوحيد من العائلة الملكية الذي تم الإصطدام معه بهذه الطريقة من طرف مثل هؤلاء السياسيين و كأنهم يقومون بجس نبضي.

و رغم كل هذه الأحداث، كنت أحس بفراغ في دواخلي و كأن بوصلتي تدور دون أن تجد إتجاها. و على الساعة الواحدة صباحا قررت الرجوع للقصر. و كانت ليلة العزاء تحيى في مكان يروده الأقارب بدون حواجز و هو “القبة”، و هي حجرة سيدي أحمد البخاري، عالم الحديث الشهير. و هي محج السلطان، طولها حوالي ثلاثين متر تقريبا، و كان وقارها و شظفها يجسد تحدي سلالتنا للزمن. فمن هنا تبتدأ إحتفالات عيد العرش، و هنا يلبس الملك اللباس الرسمي و يأتي في المساء لقراءة القرآن، و هنا أيضا تؤخذ الصورة الرسمية حينما يتزوج أي فرد من العائلة المالكة. و حين دخولي للقاعة، إقتربت مني إمرأتان لا أعرفهما و همست إحداهما إلي: “مولاي هشام، قل لنا، هل فعلا مات؟” فالبنسبة لهاتين المرأتين كما بالنسبة للعديد من المغاربة، إختفاء الحسن الثاني بعد 38 سنة من الحكم أمر صعب التصديق. و حين غادرت القاعة، صادفت M6 الذي كان يغادر أيضا إلى إقامته لكي ينام. فقلت له: “لا يمكنك أن تذهب لسلا! أنت الآن الملك يجب أن تقضي الليلة هنا”. فنظر لي دون أن يقول شيئا و بقي في القصر. و بعد عودتي لمنزلي قلت لزوجتي، التي كانت حاملا ببنتي الصغرى: “لدي شعور سيء حول الأمور. أحس بأنني سأصطدم مع سيدي محمد، لا يمكن تجنب هذا. و لدي في الواقع رغبة في أن يطردوني. أشعر بأننا ندخل ليس في القطيعة (مع الماضي) و إنما في إستمراره. لا أرى نفسي أعيش لشهور أو سنوات وسط هذا التيه. لقد فقد المخزن رأسه و لكنه في طور إنبات رأس جديد، و هو يحيط بنا و يريد أن يعيش و سيلتهمنا. ماذا يجب أن نفعل؟”.

وفي وسط هذه الحيرة، و عالما بأنه من واجبي تجاه التاريخ و تجاه المغاربة أن أبوح بمُضمر وجداني لإبن عمي، قررت أن أقوم بهذا الواجب، على قلة حظوظ حدوث تحسن في علاقاتي مع محمد السادس بعد وفاة أبيه. فالملك الجديد يجب أن يثبت نفسه، بعد أن صمت طويلا في حين كنت أتكلم بصوت عال أمام الملأ لكي أعاند الحسن الثاني. فالآن حان وقته و مهما كان بيننا، فمنطق الوضعية يفصل بيننا، بعدما فرق منطق الدولة من مسارينا.

و حتى و هو في القبر لم يكف الحسن الثاني عن مفاجئتنا. فقد كنا نعتقد جميعا أنه سيدفن في مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء. و لكن وصيته الأخيرة كانت أن يدفن في ضريح محمد الخامس في الرباط. و قبل سنوات كان يصعب تخيل أن يصدر هذا من الحسن الثاني المتعالي و الفخور بنفسه. و كانت جنازته يوم 25 يوليوز بمقام شخص إستثنائي، حضرها الأمير تشارلز، أمراء الخليج، بيل كلينتون و جاك شيراك.

[…]

و يوم غد الجنازة، عزمت على لقاء محمد السادس في القصر لأطلعه على أفكاري بالتفصيل فيما يخص الملكية، المخزن، الجيش و حكومة التناوب. و أمام أعيان القصر و العائلة قلت له خلال نقاش أن تركة العائلة الملكية يجب أن تعود للوطن، و دعوته أن لا يعطي أهمية للجنرالات وأن لا يعقد إجتماعاته في القيادة العليا للجيش، و طلبت منه إزاحة البصري بسلاسة. و لكن M6 تجنب الحديث رأسا لرأسا و الصراحة التي كان بإمكانه أن يسمح بها بيننا. فلم يجب، و كأنه لم يعرف ماذا يجب أن يقول. و لكن الأعيان الحاضرين تكلفو بالرد علي بلباقة و لكن بعنف.

و رغم ذلك فقد كان أول خطاب لمحمد السادس في 30 يوليوز 1999—و الذي كتبه عبد الهادي بوطالب— يعكس توجهاتي. و لكن خطاب 20 غشت 1999، كان رجعيا و أعلن إستمرار المخزن، أو، لنكون أكثر دقة، إعادة إنشائه على أسس جديدة. و من ضمن كل السيناريوات التي فكرت فيها كان هذا الأسوأ.

و في الواقع تم التكلف ب “قضيتي” قبل ذلك. ففي القصر و فور بوحي بأفكاري للملك، تبرأ الكل مني بالنظرات، و كانو يتجنبوني كالقنبلة اليدوية الوشيكة الإنفجار. و قد أحرجني ذلك و لكن الإنتظار لم يدم طويلا، ف 48 ساعة بعد أن عبرت عن موقفي، أخبرني رئيس البروتوكول الملكي عبد الحق المريني، بأنه تقلى تعليمات بأن يقوم بزيارة لمنزلي رفقة أحد أبناء أعمامي، الأمير مولاي عبد الله. و خلال هذا اللقاء قال لي رئيس البرتوكول: “يجب أن أوصل لكم رسالة من صاحب الجلالة، و إعلمو أنني فقط رسول و أنني طلبت أن أعفى من هذه المهمة. صاحب الجلالة يطلب منكم أن لا تأتو للقصر الملكي إلا إذا ما دعيتم إلى ذلك. فقد سببتم له عددا من الإزعاجات”. لم يفاجئني هذا و أحسست بالإنفراج و بالجرح في نفس الوقت. و حينها قاطع مولاي عبد الله كلام رئيس البروتوكل قائلا: “إسكت، ما تقول له لطيف جدا. مولاي أنت مزعج، إبق في منزلك” فأجبته أن لا داعي للإلحاح، و رغبة مني في أن لا أكون مثل من أتى لبيتي ليشتمني تسلحت بشيم إكرام الضيف المغربية لأقترح عليهم أن يشربو شايا.

و في اليوم الموالي، إتصل بي رئيس البروتوكول معلنا قدوم بعثة جديدة من الملك لمنزلي. و كان من ضمنها رشدي الشرايبي مدير الديوان الملكي و فؤاد عالي الهمة، زميل الدراسة و رجل ثقة محمد السادس. فقال لي الهمة: “صاحب الجلالة يظن أن أفراد عائلته لم ينفذو تعليماته بشكل جيد. فنريد أن نوصل الرسالة من جديد بشكل آخر: صاحب الجلالة يقول لكم أنه سيطلبكم إذا ما إحتاج لكم، و نحن في خدمتكم.”

و كانت هناك إشاعة إخترعها M6 بأنني ذهبت للديوان الملكي لكي أطلب لائحة المستشارين الجدد لكي أرى من فيها يصلح و لا يصلح. أي أنني منحت نفسي حق مراقبة إختيارات الملك الجديد. و كان خبر قدومي المفترض للديوان الملكي قد صدر عن زوجة مولاي عباس التي تعمل هناك. و مولاي عباس ضابط في الحرس الملكي و هو و زوجته من العائلة المالكة، فكانت إذن شهادتهما جديرة بالتصديق في أعين الملك، دونما إيلاء أهمية لشهادة أخيه مولاي رشيد، الذي قال و ردد له أن تلك إشاعة لا أساس لها. و هذا هو الواقع لأنني لم أكن لأفكر أبدا في مراقبة عمل الملك. و لكن M6 كان يبحث عن “سبة” لإزاحتي، و قد وجدها و إستغلها. و في وسط هذه الظروف قلت لبعثة الهمة: “الإمتياز الوحيد الذي أتمتع به هو جواز سفري الدبلوماسي، ها هو أعيده لكم” فظهر الحرج عليهم و قاما بإتصال هاتفي منزويين في ركن من أركان الصالون ثم أعادو لي جواز السفر.

توفي الحسن الثاني الجمعة، و دفن يوم الأحد، يوم الإثنين قلت لإبنه ما كان يختلج بصدري، و يوم الأربعاء تم طردي من القصر. و حين إقامة صلاة الجمعة الموالية حضرت لها إحتراما لديننا لكن لم أمكث فيها طويلا. و كما طُلب مني لم أطأ القصر بقدماي. و في مساء الجمعة إتصل بي عبد الرحمان اليوسفي و هو مرتبك فذهبت للقائه. و كان يريد أن يعرف لماذا لا أتواجد بجانب الملك. و لامني لأنني برأيه أفرطت في الصراحة، في حين أن M6 يحتاج لمن يطمئنه. فسردت له قصة قلتها ل M6 يوم الإثنين، و كانت نقاشا دار بين أبي و محمد الخامس بعد خصام الأخير مع مولاي لعربي العلوي حيث قال أبي للسلطان: “لقد سجنت كل المعارضين من الحركة الوطنية، ألا تظن أنك تماديت؟” فرد السلطان: “هذا فوق إرادتي، كان يجب ترقيع جلابة أمير المؤمنين قبل إرتدائها. لأنك حين ترتديها تلتصق بجلدك و تصبح لها حياتها الخاصة.”

حين مات الحسن الثاني، كان على اليوسفي أن يضع على الطاولة معاهدة مع الملكية لكي يحصل من محمد السادس على تقدم ديموقراطي. ولكنه قال لي و ردد: “يجب أن أنتظر” و خلافي مع هذا يلخص في ثلاث كلمات: “الإنتظار هو الإخفاق”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى