RABATTODAYالرئيسيةوطنية

هذه هي الأسرار الأمنية الخطيرة التي عجلت بموت الحسن الثاني

160709634
الرباط اليوم: متابعة
قال المفكر المغربي المعروف “عبد الله العروي” في حوار صحافي سنة 2005: “ليس مهما أن نتساءل عما فعله الحسن الثاني، بل عما قمنا به لنمنعه من ذلك”.العبارة تنطوي على أسف بالغ، لكنها جاءت مُتأخرة عن موعدها، باعتبار أن الحسن الثاني كان حينها قد شبع موتا، بعدما رحل يوم 23 يوليوز سنة 1999. وبالتالي تظل كل كلمات “الإدانة” بلا جدوى، إن لم نقل إنها مجرد استمناءات لفظية. ومع ذلك فإن السجل “الحافل” للحسن الثاني، خلال زواجه الطويل بحسناء لعوب، اسمها السلطة المطلقة، سيظل دائما مفتوحا، لقراءة ما تيسر من أسرار “الغرام” بين “العروسين”. وليس من قبيل المُبالغة القول، إن الحسن الثاني، طبع المغرب والمغاربة، بما يستحيل تجاوزه، ذلك أن أزيد من نسبة 95 بالمائة من المغاربة، لم يعرفوا ملكا غيره، على مدى سنوات هامة من حياتهم، سيما حين انتقالهم من مرحلة عمرية إلى أخرى، وبالتالي لم يفتهم تلقي “طابع” حكم الحسن الثاني، في أماكن غائرة من ذواتهم، ومن ثم وجاهة الرأي القائل إن أهم عائق، أمام أي تقدم للبلاد، في كل المجالات، يرتبط بمسألة التصور “الغائر” لدى الأغلبية الساحقة من المغاربة، بمختلف مُستوياتهم، عن السلطة التنفيذية للملك، وكان ذلك أحد “منجزات” الحسن الثاني، في خضم حربه الضروس، لجعل الملك والملكية في المغرب، محور كل شيء. وقد علق أحد الدارسين الأجانب للوضع المغربي، على هذا المُعطى بالقول: “المغاربة في حاجة إلى تجريدهم من السِّمة الحسنية”. وبطبيعة الحال، لم يكن سهلا، جعل المغرب والمغاربة، على السمة المذكورة، ذلك أنه خلال المسار السلطوي الطويل للحسن الثاني، كانت هناك ظروف حاسمة، على مستويات سياسية، واقتصادية واجتماعية، جعلته يفهم أن الغلبة في المغرب، لم، ولن تكون لـ “الأفضل” بل للأكثر سرعة، في الوصول إلى قدح الزناد، وبالتالي وجد الطريق سالكا إلى مُبتغاه، باعتبار السلطات المُطلقة، التي آلت إليه، في مغرب مُتعب و”مضبوط” جراء مخلفات المرحلة الاستعمارية.في خضم ذلك، كانت الحاجة ماسة إلى أذرع أمنية، لربح “حرب” المواقع النافذة في الدولة والمجتمع، وهو ما طرح تحديا كبيرا على مُستويين، الأول تمثل في “ضبط” المسؤوليات على رؤوس المؤسسات الأمنية المتناسلة: (“دي إيس تي” و “الشرطة القضائية” و “لادجيد” و “الاستعلامات العامة” … إلخ) وذلك من خلال جعلها، تخدم التصورات “الأمنية” الردعية، وفي نفس الوقت ألا تتجاوز الخطوط “السياسية” الحمراء، أي أن لا تتحول إلى دولة داخل دولة، بما يهدد النظام الملكي نفسه. المستوى الثاني، تمثل في “ترسيخ” مفهوم عن الأمن، يجعل الناس بمختلف مُستوياتهم “مُستوعبين” للسطوة التنفيذية للدولة، في غياب تام، لكل الاعتبارات السياسية والقانونية والأعراف الحقوقية، وهو ما ترجمته العديد من المسلكيات الاجتماعية، والأمثال الشعبية من قبيل: “خاف من المخزن والعافية والبحر”.. مما جعل المغرب والمغاربة، في حالة استثناء مُقيمة، تسري ليس فقط، في تفاصيل الواقع، بل تطال الأفئدة والأذهان. تركزت، إذن، السياسة الأمنية للحسن الثاني، في جعل الأجهزة السرية والعلنية، وهي بالعشرات، خارج إطار أية مساءلة سياسية (عبر البرلمان) وقانونية (القضاء) وشعبية (مؤسسات المجتمع المدني) اللهم بعض التناول الإعلامي المحدود، الذي كان ينقل أصداء بعض التجاوزات الأمنية، ليظل غير المعروف منها – أي التجاوزات – كبيرا جدا حتى اليوم. وفي نفس الوقت، عمد الحسن الثاني، إلى جعل الأجهزة الأمنية، مُتصارعة فيما بينها، بما كان يكفل له “إدارة” جيدة لها، تُبقيها حبيسة المهام التي أرادها هو، أي “التأطير” الأمني للناس.واليوم، فإن الإرث الثقيل للسياسة الأمنية للحسن الثاني، ما يزال يُنيخ بكلكله، على الدولة والمجتمع، إلى حد يعتبر فيه البعض، أن الأجهزة الأمنية، تحولت إلى دولة داخل دولة، تتجاوز في بعض الظروف الدقيقة، حتى الحسابات السياسية للدولة. وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول الإرث المذكور، لفهم آلياته، والتصورات الأولى التي قام عليه. لذا ففي هذا الملف الذي نقترحه على القارئ، نعرج على العديد من تفاصيل السياسة الأمنية للحسن الثاني، ونورد بعض مُعطياتها المُثيرة لأول مرة، كما نُناقش أسباب وظروف نزولها، وبين هذا وذاك، نأتي على الاعتبارات الشخصية والسياسية للحسن الثاني، التي جعلته يطبع المغرب والمغاربة، بهوس أمن شخصه واستمرار نظامه. فكانت هذه الحصيلة.

الحسن الثاني و متاهات شبكاته الأمنية

ظلت المسألة الأمنية، ضمن صلب انشغالات الحسن الثاني، على مدى قرابة الأربعة عقود، التي دامها حُكمه، ويبدو من خلال تحليل نوع الحكم الشمولي، الشديد التركيز، الذي أرساه أنه كان أمرا حتميا، تقريبا، أن تتعدد أجهزة الأمن السرية والعلنية، بمختلف أشكالها وأنواعها، وتتسع تدخلاتها وتتعقد، بشكل جعلها أخطبوطا تنفيذيا، متعدد الرؤوس والأقنعة. ومن المؤشرات الدالة على ذلك، النفوذ المتعاظم، الذي كان لقادة ومسؤولين أمنيين في البلاد؛ فمحمد المديوري، الذي كان يُلقبه، العارفون بأدواره، وتدخلاته العميقة في كل صغيرة وكبيرة، من شؤون الدولة.. (يُلقبونه) بالقط، صنع من خلال إشرافه على الأمن الخاص للحسن الثاني، شبكة نفوذ طالت العديد من الأنشطة والمجالات، أكثرها ظهورا، بعض أنواع الرياضات، وعلى رأسها ألعاب القوى، التي كان الآمر الناهي فيها، ناهيك عن الكثير من القطاعات الاقتصادية الريعية، عبر البساط العقاري والخدماتي.. إلخ، وبين هذا وذاك، كانت للمديوري، مصالح متشابكة، في العديد من مجالات التسيير الحكومية، حيث كان كثيرا ما يلجأ لاستخدام نفوذه من أجل تحصيل العديد من الامتيازات له ولذويه.نفس الأمر يُقال، عما كان عليه نفوذ الجنرال “أوفقير” قبل ذلك، حيث كان يتحكم في كل صغيرة وكبيرة، من أمور البلاد، لدرجة أن كل الشخصيات في البلاد، مهما بلغ نفوذها وثراؤها، كانت “تخطب” ود الجنرال القوي، بالنظر إلى السلطات الواسعة، التي كان يحوزها، ولم يكن يقف في وجه قراراته سوى الحسن الثاني، باعتبار أن هذا الأخير، هو مصدر سلطاته، وربما يكون هذا من أهم الأسباب التي دفعت “أوفقير” إلى محاولة قتل الحسن الثاني مرتين، دون أن يسعفه الحظ في ذلك.ثم جاء من بعده، جنرال آخر، هو أحمد الدليمي، الذي جمع هو أيضا، عدة سلطات عسكرية وأمنية، جعلته الرجل الثاني، بعد الحسن الثاني في هرم السلطة، ليتحول هو وآله، خلال ما يفوق العشرين سنة إلى “أسطورة” نفوذ وسلطة وثراء، وكان يكفي أن يتم ذكر اسم “الدليمي” في مجلس خاص أو عام، لتجف الابتسامات، وتُبتلع القفشات، فقد كان الرجل “نموذجيا” في القسوة والبطش، وهو ما كان بطبيعة الحال، يخدم “سياسة” الحسن الثاني الأمنية. كما كان هناك رجال نافذون، من مستويات أقل، عبر أجهزة الأمن السرية والعلنية، ممن “انتبهوا” إلى النفوذ الذي “نزل” عليهم، في مجتمع مسكون بالخوف من “أصحاب الحال” وكان في ذلك أفضل “بيئة” لاستنبات سلطات منظورة، وغير منظورة، وفي ركابها الثروات الهائلة، التي تأتي مُهرولة، بطرق غير مشروعة. وفي هذا الصدد، يجدر التذكير بأن أهم تمويلات أجهزة الأمن السرية في المغرب، تأتي من الصناديق السوداء التي “أينعت” مثل الفطر في البلاد، ولم يكن في ذلك محض صدفة، حيث لن يكون بمستطاع الميزانيات “المنظورة” مهما بلغت ضخامتها سد حاجيات، سياسة أمنية، لا أحد يعرف طبيعتها، ومهامها، بل فقط “آثارها” الوخيمة. إنه بطبيعة الحال، غيض من فيض “إمبراطورية” النفوذ، التي كانت لبعض رجالات الحسن الثاني الأمنيين، أما ما خفي فكان أعظم، وفي ذلك واحد من المؤشرات على الدور المحوري للجانب الأمني، زمن حكم الحسن الثاني، مما أكد الأهمية القصوى، التي كان يوليها سلف محمد السادس، لمسألة أمنه الشخصي، وسلامة نظامه واستقراره، في بلد حابل بالمتناقضات، والمفاجآت. فقد عمد الحسن الثاني، مثلا، خلال السنوات الأولى، لما بعد الاستقلال، حينما كان ما يزال وليا للعهد، إلى إرساء شكل ومضمون الأمن، بالطريقة التي عُرفت بها الأنظمة الشمولية، بـ “نكهة” مغربية صِرف، وذلك، مثلا، من خلال وضع أعنة كل المسؤوليات، في إدارة المؤسسات الأمنية، بين أيدي النظام الملكي، الماسك بكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فلم يحدث مثلا طوال فترة حكم الحسن الثاني، أن ناقش البرلمان، ولو مرة واحدة الميزانيات التي تُرصد لأجهزة الأمن السرية والعلنية، بمختلف أشكالها وتلاوينها. كما لم يتم التطرق في نفس المؤسسة “التشريعية” قط، للأدوار التي كانت تقوم بها تلك الأجهزة الأمنية، ناهيك عن التساؤل حول هوية، أو هويات الذين يمنحونها بعض القرارات البالغة الدقة والخطورة، في قضايا الاعتقالات والتجاوزات الخطيرة لحقوق الإنسان.لذا فإنه من قبيل تحصيل الحاصل، القول إن الأجهزة الأمنية المغربية، ظلت دائما بمثابة سرداب مظلم شديد العمق، لم يتسن لأحد غير الحسن الثاني، وبعض كبار مُعاونيه، أمثال الجنرالين “أوفقير” و”الدليمي” و”إدريس البصري” و”حسني بنسليمان” و”حميدو لعنيكَري”.. وآخرون أقل قيمة وشهرة، لكنهم كانوا غائصين في أسرار مغرب، ما أصبح مصطلحا عليه الآن بـ “سنوات الرصاص”.وإذا كان لكل مسار حياة شخصية، تفاصيل محورية وأخرى ثانوية، تُفسر العديد من المحطات، أو المنعرجات التاريخية الحاسمة، فقد كانت للحسن الثاني، بِضع تجارب حاسمة في الحياة وممارسة الحكم، جعلته يُدير لولب السلطة أكثر فأكثر، لإحكام القبضة على مصير بلاد، وأناسها، حتى تظل تسير “الهوينى” على إيقاع حكم فردي، شديد البطء، لكن خطواته ثقيلة فوق الأفئدة والأمكنة.. حقا لقد طبع الحسن الثاني، المغرب بميسمه الشخصي، إلى أمد غير منظور، وبالتالي، غاص به أكثر فأكثر، في قعر المُراوحة، عند ذات المتاهة التاريخية لمغرب القرون الوسطى. وكان ذلك، بالفعل، نتيجة ردة فعل حاسمة من طرف رجل – أي الحسن الثاني – وقع غير ما مرة في ظرفية حاسمة، عرف أنها مصيرية، بمعنى “أن يكون أو لا يكون”. فلم يشأ، بالنظر إلى خصائصه الشخصية، أن يكون فقط، بل أن يكون وحده ولا أحد غيره، وفي ذلك ضاعت معالم البلاد البشرية، عبر مختلف أنشطة الحياة، وتقزمت بنياتها السياسية والاجتماعية والإقتصادية، حتى لامست الانمحاء.فحينما تعرض الحسن الثاني لمحاولتين انقلابيتين، لسنتين متتاليتين، في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي، وخرج منهما ناجيا، بضربة حظ نادرة، كان قد تحول إلى شخص ميلانخولي (من الميلانخوليا).. وكان عليه أن يختار بين أمرين “أحلاهما مر” كما يُقال: إما أن يسلك درب إصلاح شديد التعقيد، لمؤسسات الدولة، وهو ما كان أحد أهم أسباب مُحاولات قلب نظام حكمه الفردي، أو تشديد القبضة أكثر فأكثر، على مُنافسيه في الحكم، ومُعارضيه، كيفما كانت طبيعة منطلقاتهم، ومما جعل الوضع المغربي أكثر تعقيدا، أن الطبقة السياسية الحزبية، والنخب الاقتصادية والفكرية، لم تكن في المستوى والعزم الكافيين، للدفع في اتجاه خيار الإصلاح، بل عملت، على العكس من ذلك إلى تعزيز المنحى الذي اختاره الحسن الثاني، أي مساعدته، بطريقة أو أخرى، في تشديد لولب الحكم الفردي الشمولي، وكان الباقي مجرد “حكايات”. وحينما كانت مؤشرات المُعارضة، تشرئب بأعناقها، سيما من بعض المكونات السياسية اليسارية، كانت الآلة الأمنية تتحرك بقوة، لتضرب بعنف.وكان طبيعيا، أن يتعاظم الدور الأمني لنظام الحكم، في أجواء عدم الثقة والاستقرار، كما حدث مثلا، بشكل سافر، خلال فرض حالة الاستثناء، على مدى سنوات طويلة.ومما عقَّد أدوار الأجهزة الأمنية، بمختلف أشكالها وتلاوينها، أن الملك الحسن الثاني، كانت له اعتباراته الشخصية الشديدة الحساسية، حيث كان معروفا عنه هوسه بأمنه الشخصي، واستقرار نظامه، وكان ذلك بمثابة هاجس مُقيم، سيما بعدما كان، أكثر من مرة، قاب قوسين أو أدنى من موت مُحقق. ولنضف إلى ذلك أن محاولات قلب نظامه، جاءته من أقرب مُساعديه (الجنرالين المذبوح وأوفقير والدليمي..) لذا أصبحت مسألة الثقة، ممسوحة من ذهنه، وقاموس حكمه، وتوغل، عقب اتخاذه خيار تشديد القبضة الأمنية، على البلاد والعباد، في العمل على استجلاب “الإخلاص” القسري، ليس من أقرب مُساعديه، من كبار رجالات الدولة المدنية والعسكرية، فحسب، بل وتصريف مظاهر الخضوع القهري، في المجتمع بأسره. فقد عمد مثلا، إلى بث إعصار اختراق أمني، بشكل عمودي وأفقي، في كل التنظيمات السياسية والمدنية .. إلخ، لجعل نمط حكمه الشمولي، حاضرا بقوة، في كل جزئية لها علاقة بالشأن العام. السجل الأمني، في البلاد كان “حافلا” على مدى ما يقرب من أربعة عقود، دامها حكم الحسن الثاني، ومن مؤشراته الكثيرة، أن كل صغيرة وكبيرة، من الشأن العام، تحولت إلى مسألة أمنية، والكثيرون منا، يتذكرون أنه أتى علينا حين من الدهر، طويل، كان أحدهم إذا أراد أن يؤسس فرقة كرة القدم، في الحي الذي يسكنه، للمشاركة في مباريات، من هذا المستوى، أي بطولات الأحياء في كرة القدم، كان الجانب الأمني يُستحضر من طرف سلطات المُقاطعة، التابعة لوزارة الداخلية، أما إذا كان الأمر يتعلق بتأسيس إحدى الجمعيات الثقافية، فكان الأمر، حينها، أدهى وأفدح، مع نفس السلطات، وهذا للدلالة على أن الهاجس الأمني كان مُقيما، كيف لا، والحسن الثاني، لم يكن يتصور إمكانية وجود مغرب آخر، خارج مفهوم “استتباب الأمن” بأي ثمن، ولو على حساب جعل البلاد كلها كتلة من الخوف.وصف بعض ممن اقتربوا من الحسن الثاني، أنه كان شخصا مُرهِقا لمُحيطيه، وذلك من دون شك، لأنه كان على وعي حاد، أن “هيبته” ومكانة نظامه السياسي، يقومان بالتحديد على شكل ومضمون علاقاته بمحكوميه، سيما أولئك الذين ساقهم “الحظ” ليكونوا إلى جانبه، يُصَرِّفون توجيهاته بين الناس، وعبر الزمان والمكان المغربيين، وبما أن الحسن الثاني، كان شخصا مسكونا، بهاجس سلامته، واستقرار نظامه، كما سبقت الإشارة، فقد استخدم صفاته الشخصية، غير العادية (باعتبار ظرف إمساكه بسلطة بلا ضفاف منظورة) واتخذ تجاربه المُعقدة في مُزاولة الحكم، ليكون كل شيء في خدمة الملك والملكية.فما الذي كان مُنتظرا من شخص، توفر على كل أسباب الثروة والسلطة، لكنه لم يكن يستطيع النزول، للسباحة في مسبح حالم، بقصر من قصوره الكثيرة الباذخة، مخافة أن يُفاجئه أحد الحانقين، عليه، أو الطامحين إلى أخذ السلطة منه، فيموت بمايو السباحة؟ ليس ثمة أكثر من جواب، بالنسبة لشخص بطباع الحسن الثاني. وهو تشديد القبضة حتى يختنق الجميع، بلا استثناء.يقول بعض الذين تأملوا تجربة الحسن الثاني في الحكم، إنه تحول خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، إلى رجل يُنصتُ إلى أوجاع الجسد، وهو ما جعله يتوغل أكثر فأكثر، بفعل “منطق المرض” في سياسة “الاستقرار بأي ثمن”.. وزيره القوي في الداخلية “إدريس البصري” كان على علم بالتحولات البيولوجية للحسن الثاني، فقدم له “الراحة” اللازمة، وذلك بأن أعفاه من التفاصيل المُرهقة في تدبير شؤون الحكم، وكانت النتيجة أن تحول “البصري” إلى صدر أعظم بنفس مفهوم السلطة في القرن التاسع عشر، زمن “أحمد بنموسى” الملقب بـ “با حماد” و”المهدي المنبهي” خلال فترات حكم السلطانين الحسن الأول وعبد العزيز.. حيثُ يشكل الأمن حجر الزاوية في تصريف شؤون الدولة والمجتمع، والباقي تفاصيل تذروها الرياح العاتية لمنطق “استقرار أمن الدولة”.

كيف فقد الحسن الثاني ثقته في الجميع؟

يتفق الكثيرون ممن تناولوا، بحثا أو عرضا، شكل الدولة الأمنية، التي اعتمدها طوال سنوات حُكمه الثمانية والثلاثين، على القول بأن محطتي الانقلابين العسكريين، بتاريخ 10 يوليوز 1971 و16 غشت 1972، جعلته رجلا آخر. كيف ذلك؟قبل التاريخين المشهودين المذكورين، كان الحسن الثاني، شديد الثقة والفخر بمؤسسة الجيش التي سهر على ترتيب أركانها، منذ كان وليا للعهد، فهو لم يتردد على التصريح، لمجلة “ليفينمان” الفرنسية، في شهر أكتوبر سنة 1966: “ليس هناك في المغرب سوى قوة تنظيمية وتنموية واحدة، إنها مؤسسة الجيش. فوحدهم ضباطي، منضبطون ونزهاء ومخلصون، ويُمكنني أن أطلب أو أنتظر منهم، أي شيء، هم وحدهم، يُمكنهم أن يسيِّروا هذا البلد بطريقة مُنضبطة، إنهم نزهاء، لأنهم لا يُمارسون السياسة، ويحبون مهنتهم، وسوف أعين عمالا عسكريين، على رؤوس الأقاليم، كما سأؤطر الإدارة المحلية، بالضباط وضباط الصف”.وبطبيعة الحال، فقد أدى الحسن الثاني ثمن تلك الثقة غاليا، مرتين، خلال اليومين المذكورين على مدى سنتين مُتتابعتين، في الأولى كان قائد حرسه الخاص، الجنرال المذبوح، وراء العملية الانقلابية بقصر الصخيرات، في نفس اليوم، الذي كان يحتفل فيه الحسن الثاني بعيد ميلاده الثاني والأربعين، والثانية كان وراءها جنرال آخر، سلمه كامل السلطات المدنية والعسكرية، عقب نجاته من موت مُحقق، ونقصد بذلك الجنرال أوفقير، الذي نظم عملية انقلابية، سنة بعد الأولى، حيث خطط لقتل الحسن الثاني، وهو بين السماء والأرض، حين كان عائدا على متن طائرته الخاصة، من زيارة إلى فرنسا. ومرة أخرى كان الحظ، وسوء التخطيط، وراء نجاة الحسن الثاني من هلاك كان وشيكا جدا.في اللحظة التي اكتشف خلالها الحسن الثاني تورط الجنرال “أوفقير” في عملية الانقلاب، كان قد أخذ “الدروس” الكافية ليُصبح شخصا آخر.. وهو ما عبر عنه في جريدة “لوفيغارو” الفرنسية يوم 25 غشت سنة 1972 أي تسعة أيام بعد المحاولة الانقلابية، حيث قال: “يجب علي ألا أمنح ثقتي لأي كان، إنها صدمة ألقنها لنفسي من خلال اتخاذ هذا القرار، لكن الأمر لا يتعلق بي وحدي بل بملايين الناس الذين أتحمل مصائرهم بعد الله”.

الحسن الثاني كرر الخطأ نفسه للمرة الثالثة

كان الحسن الثاني، قد تحول إلى شخص آخر، مهووسا بسلامته الشخصية، وبالتالي بقاء نظام حكمه قائما، غير أنه ويا للغرابة، لم يلتزم الحذر، أغلب الوقت، كما أوحى بذلك، حيث سقط في نفس الخطأ، مع جنرال قوي آخر هو “أحمد الدليمي”. وحسب بعض الذين حللوا هذا المعطى، فإن الحسن الثاني لم يكن بوسعه فعل غير ذلك، باعتبار أن شكل ومضمون النظام الشمولي، الشديد التركيز، والقائم على السلطة الفردية، الذي أرساه، كان لا بد أن تكون به ثغرات عديدة. ومنها أن إدارة شؤون الدولة، تتطلب حضورا مستمرا للبديهة، والحال أن الحسن الثاني كانت لديه “انشغالات” مخملية، مما جعله أغلب الوقت يصدر التوجيهات الكبرى، تاركا لآخرين، من رجال النظام النافذين مهام تطبيقها، على أرض الواقع، ويحدث في خضم هذه الآلية الشمولية، أن يصبح زمام النظام، قابلا للأخذ من أحد كبار رجالات النظام. وهو ما حدث بالضبط، مع تجربتي “أوفقير” سنة 1971 و “الدليمي” سنة 1982، ولا غرابة أن ينتهي الاثنان بنفس الطريقة تقريبا.وفي تلك اللحظة الحرجة الثالثة، من تجربة الحسن الثاني في الحكم، سيدخل رجل آخر على الخط ليلعب دور “أذن وعين” الحسن الثاني هو محمد المديوري، وذلك حينما عمد هذا الأخير إلى تلقي “اعترافات” الدليمي، ومن بينها مثلا، ما كتبه في تقرير رفعه للحسن الثاني: “لقد اعترف – أي الدليمي – بأنه التقى المدير المساعد لعمليات وكالة المخابرات الأمريكية (سي إي آي) وأن هذا الأخير كان قد طمأنه بتقديم المساعدة، في حالة تنفيذ عملية انقلاب، وشجعه على التحرك في هذا الاتجاه”.حينها اكتشف الحسن الثاني، اللعبة الأمنية والاستخباراتية، وتعقيدات تحالفاتها، وبالتالي مُحاولته الاستفادة منها على أكثر من مستوى.

كيف جعل الحسن الثاني إدريس البصري وحسني بنسليمان يتعاركان بالأيدي؟

اكتشف الحسن الثاني، الوصفة الأنجع، للتحكم في المعطيات الأمنية، وذلك بعدما تأكد له أن وضع المسؤوليات الأمنية، بين يدي رجال قلائل، كما كان الأمر مع “أوفقير” بالنسبة للداخلية والجيش والمخابرات، ثم “الدليمي” بالنسبة للجيش والمخابرات العسكرية، وبالتالي عمله – أي الحسن الثاني – على بعثرة المسؤوليات، على العديد من الأشخاص العسكريين والمدنيين، من أجل الحفاظ على نظام الحكم. لجأ في البداية إلى تفكيك السلطات العسكرية والأمنية، التي كانت بحوزة الجنرال “الدليمي” وسلم مقاليدها، إلى أكثر من شخص، عين مثلا الكولونيل ماجور محمد الشرقاوي، الذي كان على رأس الحرس الملكي، مديرا لمصلحة ياورات (جمع ياور) القصر، أما مديرية المخابرات العسكرية (لا دجيد) فآلت للجنرال عبد الحق القادري، ومنصب مُدير الأمن لحميد بخاري، وأخيرا عين الجنرال عبد العزيز بناني، مسؤولا عن قيادة الجيش بالجنوب، وذلك بعدما كانت هذه المسؤوليات مُجتمعة في يد الجنرال “احمد الدليمي”.غير أن الأهم من ذلك، كان متمثلا في اعتماد الحسن الثاني، على قاعدة ذهبية، تمثلت في زرع الإنقسام بين كبار مُساعديه، حيث عمد إلى ضرب هذا بذاك، عبر شبكة ارتباطات مُعقدة، حيث أصبح كبار المسؤولين المدنيين، في صراعات دائمة التأجج، مع نظرائهم في المجالات العسكرية والأمنية، وأكبر مثال بهذا الصدد، الخصومات والحساسيات الحادة، التي نشأت بين رجال الدرك والجيش، وتبين أنه لا وجود لأحد في المغرب، فاق الحسن الثاني في إذكاء نيران الخلافات الشخصية، بين هؤلاء وأولئك.وللدلالة على هذا المستوى، الذي وصلت إليه الخلافات الشخصية، بين كبار رجالات الدولة في عهد الحسن الثاني، نورد هذه الواقعة: كان الحسن الثاني يوما مُقيما في قصر مدينة “بوزنيقة” يتداول مع بعض مُستشاريه ومساعديه المقربين، في موضوع الصحراء، وكان من بين الحاضرين، الجنرال حسني بنسليمان ووزير الدولة في الداخلية إدريس البصري، وحدث أن اختلف الرجلان في جزئية مُعينة، وتبادلا كلمات نابية، ليتطور الأمر، إلى حد الدخول في اشتباك بالأيدي، وكان مُلفتا، حسب أحد الذين تابعوا المشهد، أن الحسن الثاني لمعت عيناه حينها من شدة السرور، ذلك أن جهوده كانت قد أثمرت إحدى النتائج “الإيجابية” وتمثلت في جعل اثنين من كبار رجال الدولة مُتنافرين إلى ذلك الحد.كانت للحسن الثاني أيضا، علاقة أمنية حميمية مع رجل يُلقب بـ “القط” ونعني به رئيس حرسه الشخصي “محمد المديوري”.. كان هذا الأخير ينفذ، بذكاء شيطاني توجيهات الحسن الثاني الأمنية، حسب أحد المُقربين مه، فمثلا، حينما عمد مدير الأمن الوطني السابق “محمد الميداوي” إلى تجاوز نفوذ إدريس البصري، بمحاولته خلق تواصل لحسابه الخاص، مع القصر، ومُهاجمته لبعض أصدقاء “المديوري” عمد هذا الأخير إلى تنحية الرجل – أي الميداوي – من منصبه والتطويح به في عراء الفراغ، إلى غاية بداية سنوات حكم محمد السادس، الذي انتشله من خانة النسيان، وعينه وزيرا للداخلية في حكومة عبد الرحمان اليوسفي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى