مجتمع

هذه القصة الكاملة لوفاة “شهيد القفة”

الرباط اليوم

لم يكن يدور في خلد الحسين العطار، أن احتجاجه ضد حرمانه من قفة تحوي بضع مواد غذائية، بالكاد ستسد رمق أسرة لحوالي 15 يوما، سيكلفه حياته بعدما انتقل أول أمس الأحد إلى مقر قيادة الصهريج بإقليم السراغنة، ليبث شكواه وعوزه إلى المسؤولين لعلهم يرأفون بحاله. لكن لا أحد أنصت إليه ففارق الحياة هناك على نحو دراماتيكي متحسرا على الحيف الذي طاله. وهي الحسرة التي رافقته إلى مثواه الأخير وأخرجت، بعد تشييع جثمانه، العشرات ممن يعيشون نفس وضعه الاجتماعي الصعب للاحتجاج في مسيرات حاشدة، في الوقت الذي كان فيه رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، يلقي خطبة مشبوبة في البرلمان بالعاصمة الرباط، ويشدد على ضرورة التقيد بالحجر الصحي اتقاء لحصد المزيد من الأرواح بسبب فيروس “كورونا”، في مشهد كاريكاتوري يترجم أن “كوفيد 19” ليس أقل فتكا من الجوع.

“شهيد القفة”.. أصل الحكاية

مع مطلع شمس يوم الأحد الفائت، توجه الحسين، البالغ قيد حياته 43 سنة، إلى مقر قيادة الصهريج التابعة لإقليم السراغنة، بعدما اشتدت به الفاقة، ليطلب الاستفادة من المساعدات الغذائية التي منحها مجلس الجهة للأرامل والمرضى وغيرهم من الفئات الاجتماعية الهشة، سيما وأنه لم يعد يتوفر على أي مورد رزق، إثر إغلاق رحبة الحبوب حيث كان يشتغل “حَمّالا”، في إطار التدابير التي أقرتها الدولة للحد من تفشي الوباء.

وعقب وصوله إلى مقر القيادة، حيث السلطات كانت تواصل لليوم الثاني على التوالي مهمة توزيع القفف على بعض “المحظوظين”، يروي يوسف، ابن أخت الفقيد لـ”الأول”، دلف إلى مكتب قائد المنطقة، بينما كان هذا الأخير يشرف على عملية توزيع الإعانات، معربا له عن حاجته القصوى في قفة، ومحتجا أيضا على عدم تضمين اسمه في لائحة المستفيدين، علما أن نشاطه توقف ولم يستفد من دعم صندوق “كورونا” لهذا الشهر رغم أنه حامل لبطاقة “راميد”، علاوة على أنه مصاب بمرض القصور الكلوي ويعيل أسرة تتألف من ثلاثة أفراد.

لكن القائد رد رجاء الهالك. ومع ذلك لم يستسلم هذا الأخير، فظل مرابطا هناك طيلة اليوم، آملا في أن يحن قلب الشيخ والمقدم ويخلصانه من مهانة الانتظار طويلا تحت أشعة شمس لافحة وذل الإلحاح في استجداء الخبز من القائد، سيما وأنهما من أقربائه.

يقول يوسف بتأثر واضح: “الشيخ خالو يا حسرة والمقدم ولد خالتو.. وهما أكثر الأشخاص اطلاعا على ظروفه الاجتماعية الصعبة، وعارفين نْفسُو حارَّة وما عَمّْرُو مد يديه.. كَيخْدم فالسُّوق ديال الزرع وقَانْعْ.. غير دابا مع كورونا ما بْقَاشْ كيْخدمْ مسكين فتْأَزّْم”، مضيفا وهو يعاتب أعوان السلطة المذكورَيْن: “مادام شَافُوهْ مُصِّر على القفة، هذا يدل أنه فعلا محتاج.. كان عليهم يْعطِيوهْ غير وحدة وما يْخَليوهْشْ يموت مفقوص”، ثم يعود ويقر: “أجل نحن نؤمن بقضاء الله وقدره وراضون بما قسم، لكن لا أحد يتمنى لأي كان أن يموت بسكتة قلبية سببها قفة، لذلك فقد صدق من وصفه بـ”شهيد القفة”!”.

لم تُجدِ شيئا تلك التوسلات التي غمر بها الحسن العطار، طيلة النهار، رجال السلطة بمختلف درجاتهم، كما لم يشفع له الدم الذي يشاطره مع أعوان السلطة الذين أقصوه عنوة من الاستفادة من الدعم، بالنظر إلى أنهما من تكلفا بإعداد قوائم المستفيدين، فسقط الرجل مغشيا عليه أمام مقر قيادة الصهريج، وما هي إلا ثوان معدودات حتى أُعلن عن مفارقته الحياة لتصحد حناجر الجميع عويلا على وفاته.

مات العطار تاركا وراءه زوجة حامل في شهرها الثامن وطفلتين عمرهما على التوالي 7 سنوات وثلاث سنوات. ولم تقف القصة هنا فقط، فقد تقاطرت على منزله بدل القفة الواحدة خمس.

مساومة

المثير في هذه الوفاة المأساوية أن السلطات، عقب وفاة الراحل، سارعت إلى إرسال مساعدات غذائية عبارة عن ثلاث قفف إلى أسرته عبر سيارة تابعة للدولة، غير أن ساكنة المنطقة بمجرد ما لمحت ذلك، تدخلت ومنعت تقدم السيارة نحو منزل أسرة الهالك.

وفي واقعة تراجيدية لا تقل بؤسا عن سابقتها، يؤكد ابن أخت الُمتوفَّى لـ”الأول”، أن رئيس الدائرة استدعاه وطلب منه أن يتسلم نيابة عن أرملة العطار قفتين من المساعدات الغذائية وكيسين من الدقيق. “لم أكن أعتقد أن وقاحة هؤلاء المسؤولين ستبلغ هذه الدرجة” يعلق يوسف، مردفا بنبرة يعتليها الأسى: “لا أخفيكِ أنني شعرتُ بالإهانة وبأن كرامة المرحوم والعائلة ستمرغ في الوحل إذا قبلت طلبه. لذلك سايرته وتسلمت فعلا المواد الغذائية فقمت بعد ذلك بإتلافها كلها في لحظة هيستيرية أمام مقر الدائرة، لأعبر لهذا المسؤول وللجميع أننا لا نُسَاوَم ولو أعطونا مليون قفة لن ترد الفقيد.. وهناك فيديو يوثق الواقعة”.

تلاعبات في لوائح الدعم ومطالب بعزل مسؤولين

فجر هذا الحادث المؤلم الذي راح ضحيته العطار فضيحة بمنطقة الصهريج، يسعى الواقفون وراءها منذ أول أمس الأحد إلى إخفاء معالمها والتستر عن تفاصيلها. فقد كشف كلا من فرع العطاوية تملالت للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والفرع المحلي للحزب الاشتراكي الموحد بالصهريج، في بلاغات صادرة عنهما عن وجود تلاعبات محتملة بشأن تزوير لوائح المستفيدين المفترضين من الدعم الممنوح من قبل مجلس الجهة لساكنة المنطقة خلال شهر رمضان، عبر تضمينها أسماء ميسورين وأساتذة وغيرهم، بدل مستحقيها الحقيقين أمثال الحسين العطار.

وطالبت الهيئتان عينهما في بلاغاتهما بفتح تحقيق حول النازلة مع ترتيب الجزاءات القانونية في حق المسؤولين عن الحادث، وهو نفس المطلب الذي يرفعه نور الدين العطار، شقيق الفقيد، الذي شدد على وجوب عزل المسؤولين عن وفاة أخيه وأشار بالدرجة الأولى إلى رجال السلطة بمنطقة الصهريج، متهما إياهم في حديثه مع “الأول” بالوقوف وراء تلاعبات طالت اللوائح.

نور الدين، الذي لم يكن على علم بمعاناة شقيقه، تأسف كثيرا حينما أُخبر بما وقع له يوم الأحد الفارط، مبرزا ضمن تصريحه للموقع أن المنطقة تعيش على وقع تهميش كبير، وتعاني أعطابا تنموية عميقة وسط غياب المسؤولين، رغم تظلمات المواطنين.

صرخة الجوع تنذر باكتشاف بؤر احتجاجية لـ”كورونا”

وفاة العطار شكلت القطرة التي أفاضت الكأس، إذ لم يصرف الصيام وحالة الطوارئ الصحية ومعهما توجيهات السلطات بتلافي التجمهر اتقاء لـ”كورونا”، العشرات من المواطنين بالعطاوية من الاحتجاج، لليوم الثاني على التوالي.

الانتفاضة الشعبية التي قادها، يوم أمس الإثنين، سكان دواوير الصهريج والحمادنة التابعة لجماعة الصهريج وتلك التابعة لجماعة المزم، إضافة إلى دواوير جماعة واركي وقاطني جماعة اولاد خلوف، متوجهين مشيا على الأقدام إلى مقر عمالة إقليم السراغنة وعمالة أزيلال رفعوا عبرها شعارات مدوية تطالب بفتح تحقيق في وفاة “شهيد القفة” ومحتجين على عدم استفادتهم من الدعم، خاصة وأنه تقرر تمديد فترة الحجر الصحي لثلاث أسابيع إضافية، وهو ما سيؤزم بلا شك وضعية الملايين من الأسر المغربية في ظل عدم توصلهم بدعم صندوق “كورونا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى