وطنية

محاصرة تحركات البوليساريو.. حرب التجسس بين المغرب وجيرانه

الرباط اليوم: متابعة

في السنتين الأخيرتين ظهر المغرب بمظهر البلد الذي يراهن على التكنولوجيا المتطورة لكسب حرب التجسس وانتزاع موقع متقدم بين جيرانه. فوسط محيط إقليمي صعب وملتهب، يضم دولا لها طموحات توسعية قديمة كإسبانيا وبلدانا ترفع شعارات وإيديولوجيا عدائية كالجزائر، ومنطقة غير مستقرة أمنيا كمنطق الساحل والصحراء، تصبح تكنولوجيات التجسس والاستشعار رهانا استراتيجيا مهما.

وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيات المكلفة كثيرا ما تلقى نقدا ورفضا داخليا بسبب تكلفتها الباهظة واستمرار تنامي الفوارق الطبقية والمجالية وتدهور الوضعية الاقتصادية إلا أن السلطات المغربية ترى فيها رافعة من رافعات المستقبل يمكنها أن تتيح للمغرب فرصا قوية للتموقع في خارطة الدول الأكثر استقطابا للاستثمار والفرص الإنمائية.

ما بين نونبر 2017 ونونبر 2018 أطلق المغرب قمرين صناعيين في توقيت يحمل دلالة تاريخية ووطنية مليئة بالرموز والعبر. في شهر الاحتفال بالمسيرة الخضراء حرص المغرب على إطلاق القمر الصناعي “محمد السادس أ” ثم “محمد السادس ب” بكلفة فاقت 500 مليون دولار. بالنسبة لبلد مثل المغرب لا يتجاوز ناتجه الإجمالي السنوي 100 مليار دولار يعتبر الإنفاق على مشروع كهذا ضربا من الترف والمغامرة، خصوصا أن بلدان الجوار التي تعتبر في وضعية اقتصادية أفضل لا تمتلك مثل هذه التكنولوجيا المتقدمة في عالم التجسس .

الرهان على التكنولوجيا

لكن إطلاق المغرب لقمرين اصطناعيين مباشرة بعد تدشين القطار السريع “البراق” يظهر جانبا من التوجه التكنولوجي الهادف إلى استدراك جانب من الهوة التقنية التي لا تزال تفصل البلاد عن جيرانها الأوربيين على الخصوص، وكمحاولة للحاق بركب التطور والحداثة على مستوى البنيات التحتية والمواصلات والمعلومات. لكن هذا الاستثمار الضخم في البحث عن موطئ قدم في الفضاء لا شك أنه يحقق أغراضا أكثر أهمية واستراتيجية بالنسبة لمحيط إقليمي وجيواستراتيجي كالذي يقع فيه المغرب. هناك إكراهات أمنية ومعلوماتية تضغط اليوم وأكثر من أي وقت مضى على المغرب من أجل تأمين حدوده في مواجهة تحديات الإرهاب والهجرة السرية والمخاطر البيئية والكوارث الطبيعية.

فالقمر الاصطناعي الثاني والذي يدعى “محمد السادس ب” والذي تم إطلاقه من محطة غويانا الفضائية، التابعة لفرنسا والواقعة على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية مُخصص لمراقبة تراب المملكة المغربية، واستغرقت عملية إطلاقه حوالي 55 دقيقة، وقد قام صاروخ “فيغا” بنقله إلى المدار الفضائي. وسهرت على تطوير هذين القمرين الاصطناعيين كل من Thales Alenia Space وشركة إيرباص. وستوجه خدمات هذين القمر نحو أنشطة المسح الخرائطي وخدمة أهداف التنمية والرصد الفلاحي والوقاية من الكوارث الطبيعية وتدبيرها، إضافة إلى رصد التغيرات البيئية والتصحر.

قلق الجيران

لكن كل هذه الأغراض السلمية والاستراتيجية لا تروق لجيراننا شمالا وشرقا. هناك توجس دائم من الجزائر وإسبانيا بخصوص كل مشاريع ومحاولات المغرب لتحصين ترسانته الأمنية أو العسكرية خاصة في عالم التجسس . ويحرص البلدان باستمرار على التعبير عن قلقهما وأحيانا غيرتهما من هذه المبادرات المغربية.

والظاهر أن توجه المغرب في هذا المحيط الإقليمي نحو الاستثمار في الأقمار الاصطناعية هو استثمار في تحصين السيادة على الأراضي المغربية خصوصا في ظل استمرار النزاع المفتعل حول الصحراء وتوتر العلاقات المغربية الجزائرية ورفض الجزائر التنسيق لأجل فتح الحدود البرية والتحكم في موجات الهجرة السرية الوافدة من حدودها.

هذا التفوق النسبي للمغرب باعتباره ثالث دولة إفريقية تمتلك أقمارا اصطناعية بعد مصر وجنوب إفريقيا، يعتبر عقدة إضافية للجزائر على الخصوص. لقد بلغت هذه العقدة حدودا كوميدية عندما تم إطلاق القمر الاصطناعي الأول في 2017 وأعلنت الصحافة الجزائرية حينها أن لجنة حكومية جزائرية شرعت في أشغال نصب أنظمة مراقبة تكنولوجية، وعوازل إسمنتية مزودة ببرامج إلكترونية وأجهزة تشويش، لتعزيز المراقبة على الحدود مع المغرب. هذه الإجراءات أملتها حسب صحف جزائرية “دواع أمنية متزامنة مع اعتزام المغرب إطلاق قمر صناعي تجسسي”. هذه التجهيزات التي أعلنت عنها الجزائر في العام الماضي تشمل عازلا بدأت الأشغال بخصوصه مزود بأنظمة مراقبة واتصال كهروبصرية جرى تصنيعها بشراكة مع مؤسسة ألمانية متخصصة في نظم المراقبة بأجهزة الرادار.

القلق بخصوص هذا التفوق المغربي ليس جزائريا فقط، هناك قلق آخر في الضفة الشمالية من الجارة الإسبانية. بل إن هذا القلق جعل إسبانيا لا تتردد في إعلان رفضها لإطلاق المغرب قمرا صناعيا لأغراض عسكرية، واعتبرت أن من شأن هذا القمر الصناعي الإخلال بالتوازن العسكري وتقوية ميزة التجسس لدى المغرب. بالنسبة لإسبانيا إن القمر الذي اقتناه المغرب إلى جانب قمر آخر في صفقة قيمتها حوالي 500 مليون أورو سنة 2013، ولهما القدرة على القيام بأعمال التجسس من خلال التقاط صور مراقبة بدقة 70 سم، سيصبح المغرب بفعله أول بلد جار يمتلك هذه التجربة، حيث سيمكنه من رصد كل ما يتحرك على الأرض بدقة عالية.

دواعي أمنية

وعلى الرغم من أن المغرب دولة صديقة لإسبانيا في مجالات تتعلق بالتعاون البناء في مكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب، فإن الاستراتيجيين العسكريين الإسبان يحذرون من أن الميزة التكنولوجية التي حصل عليها المغرب قد تثير توجسا كبيرا. ويعتبر هؤلاء أن من شأن هذه الأقمار الاصطناعية أن تمكن من الحصول على معلومات مفصلة حول المنشآت العسكرية وتحركات القوات العسكرية للجيران، إسبانيا والجزائر، أو جبهة البوليساريو. لكن هذه النزعة الاتهامية الإسبانية بالأغراض التجسسية تتجاوز التحديات الأمنية المشتركة مع بلدان الجوار، فهذه الأقمار الاصطناعية لها دور فعال في مطاردة الجماعات الجهادية التي تنشط في الساحل، مثل القاعدة في المغرب الإسلامي، ورصد تحركات القراصنة على مستوى خليج غينيا.

كما أن الحصول على أقمار اصطناعية بالنسبة للمغرب ينخرط ضمن الاستراتيجية الوطنية للتوفر على وسائل تكنولوجية حديثة مصممة مغربيا ومستغلة على أرض الوطن من طرف كفاءات مغربية. وما فتئ المغرب يطمئن جيرانه بأنه لا يسلك هذا المنحى ولا يميل إلى السباق العسكري والاستخباراتي في المنطقة بقدر ما يحبذ استخدام التكنولوجيا الحديثة في التحديد الدقيق للخرائط والمسح الطبغرافي.

محاصرة تحركات البوليساريو

لكن الحفاظ على أمن الحدود ومواجهة الخروقات التي تعودت على ارتكابها جبهة البوليساريو ليس من بين الأهداف السرية للأقمار الاصطناعية، فالمغرب لا يخفي أن هذه التكنولوجيا تفيد في مراقبة هذه الخروقات. وهذا ما سبق أن أكده السفير، الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، بالأمم المتحدة، من كون القمر الصناعي المغربي “محمد السادس-أ” يسمح برصد أدنى تحركات “البوليساريو”، مبرزا أن المملكة، في ظل قيادة الملك، “كان لها حظ ولوج العصر الجديد للتكنولوجيات عالية الدقة”. وقد اعتبر هلال أن “المغرب بات يتوفر، بفضل هذا القمر الصناعي، الذي تم وضعه بفضل مبادرة الملك، على أداة للمراقبة تسمح لنا بمعرفة ورصد أدنى تحركات وتنقلات انفصاليي البوليساريو كل يوم وكل دقيقة وكل ثانية”. وأضاف أنه، خلافا لما كان عليه الحال في الماضي، “أصبحنا اليوم قادرين على تتبع تحركات الانفصاليين ونبلغ الأمانة العامة للأمم المتحدة في حينه، ونمدها بصور للأقمار الصناعية”، مضيفا أن “هذا يسمح لنا بالضغط على انفصاليي البوليساريو، الذين نرصد وندين تحركاتهم ومناوراتهم”.

وفي إطار هذا المنحى المتعلق بمراقبة الحدود والحفاظ على السيادة لا يمكن تجاوز نقطة مهمة تتعلق بسباق التسلح المغربي الجزائري. بين البلدين وعلى مدى عقود استمرت حمى التسلح واستنزفت ميزانيات ضخمة، وفي كثير من الظروف والسياقات كانت الجزائر تستفيد من فائض البحبوحة النفطية من أجل توظيفه في التفوق العسكري وسباق التسلح. نفقات الجزائر العسكرية كانت باستمرار تحقق تفوقا كميا وأحيانا نوعيا على مستوى العتاد الذي تحصل عليه من المورد الأساسي موسكو. ويرى بعض الخبراء المراقبين أن توجه المغرب نحو الاستثمار في منظومة الأقمار والمعلومات هو استراتيجية تسعى إلى تجاوز هذا التفوق الجزائري في التسلح التقليدي من خلال تكنولوجيا استباقية يمكن أن تعطي للمغرب تفوقا واضحا على الأرض.

هذه التكنولوجيا الحديثة تهيئ للمغرب أرضية مهمة لتطوير كفاءاته وموارده البشرية في هذا المجال واستثمارها في مجالات مدنية وسلمية ضرورية. كما أن هذا التفوق النوعي الذي تمنحه منظومة الأقمار الاصطناعية للمغرب على جاره الجزائري لا يعني بالضرورة توجها هجوميا بقدر ما هو استراتيجية دفاعية خالصة لحماية السيادة والحدود في انتظار الانفتاح في العلاقات بين البلدين واستجابة الجزائر لدعوات المغرب المستمرة من أجل تطبيع شامل وكامل ودائم للعلاقات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى