اقتصاد

ماما فرنسا في المغرب.. أطماع استعمارية لم تمت

الرباط اليوم

لا يمر عام دون أن تذكرنا فرنسا بأطماعها الاستعمارية التي لم تمت. فعلى الرغم من إعلان استقلال المغرب قبل أكثر من ستين عاما إلا أن الحضور الفرنسي الطاغي في كل المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية والإعلامية يذكرنا باستمرار أن استقلالنا كان بروتوكوليا فقط، فقد خرجت جيوش فرنسا وتركت وراءها جيوش الفرنكوفونية تتغلغل في كل المؤسسات ومراكز القرار والنخب الخادمة. فهل الفرنكوفونية مجرد شغف لغوي أم لوبيات نشيطة تحافظ على مصالح “ماما فرنسا”؟

قبل أسابيع قليلة أعلن الملك محمد السادس عن مشروع جديد للقطار السريع يربط بين مراكش وأكادير، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى بدأت فرنسا ومؤسساتها ونخبها تكشر عن الوجه الاستعماري القديم وشرعت في ممارسة الضغوطات الإعلامية والسياسية على المغرب لضمان انتزاع صفقة القطار السريع لفائدة شركاتها التي سبق أن حظيت بصفقة القطار السريع بين الدار البيضاء وطنجة.

كثير من بلدان العالم المتقدم أصبحت تمتلك تكنولوجيا القطار السريع بما في ذلك الصين واليابان وكندا وغيرها، لكن باريس لا تريد أن تقطع مع اعتبار المغرب حديقة خلفية للاقتصاد الفرنسي.

هذا الحدث الطارئ يعكس جانبا من هذه الفرنكوفونية المقيتة التي لا تزال تتحكم في المغرب وتجد فيه مرتعا لتوجهاتها واختياراتها ومختبرا لتجريب كل برامجها, بما في ذلك البرامج الفاشلة.

برامج التعليم

لم يتعرض المغرب لضغط الإيديولوجيا الفرنكوفونية في مجال أكثر مما تعرض له في مجال التعليم. لقد مضى على انطلاق أول سلطة تعليمية مغربية أكثر من ستين عاما وخلال هذا الزمن الطويل كان المغرب باستمرار يحاول البحث عن مساره الخاص دون جدوى.

وفي كل مرة ترتفع الأصوات المطالبة بمغربة التعليم وتعريبه تعود اللوبيات الفرنكوفونية لممارسة ضغوطاتها وتستسلم الإدارات المتعاقبة لهذا النهج الذي قاد البلاد في نهاية المطاف إلى إفلاس تام للمنظومة التعليمية.

قبل شهور قليلة عاد المشرع المغربي مرة أخرى للاستسلام عندما تمت المصادقة على القانون الإطار المنظم للتربية والتعليم الذي أقر رسميا العودة إلى تدريس كل المواد العلمية باللغة الفرنسية، بعد أن قضى المغرب أشواطا طويلة في التدريس باللغة العربية في هذا المجال.

ورغم أن الفرنسة آلت هذا الموسم الدراسي إلى فضيحة حقيقية في ظل غياب الأطر وعدم استعداد الوزارة وتأخر المقررات إلا أن الحكومة التي يرأسها حزب العدالة والتنمية أبت إلا أن ترضي فرنسا بإقرار منظومة تعليمية مفرنسة تعتبر لغة التدريس مشكلة جانبية فيها.

لم تكن العودة إلى الفرنسة حدثا مستغربا، فزواج المنظومة التعليمية مع الفرنكفونية زواج كاثوليكي بدأ منذ الاستقلال وتم فرضه بكل أنواع الضغوطات الممكنة.

لقد سجلت السنة الأولى من الاستقلال إنشاء اللجنة العليا لإصلاح التعليم. وفي هذه اللجنة تقرر أن يتم تعريب التعليم الابتدائي، وتوحيد البرامج التعليمية بمختلف مناطق البلاد. مع تحديد سلك أول ابتدائي يتوزع على خمس سنوات، وسلك ثانوي من ست سنوات.

غير أن هذه التجربة لم تعمر غير سنة واحدة حيث ستحمل لنا سنة 1958 إنشاء اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، والتي اطلقت أولى “مبادراتها” بإلغاء ما حملته اللجنة العليا لإصلاح التعليم، والتراجع عن كل قراراتها.

وبنفس السرعة والارتجال أيضا، ستحمل السنة الموالية وهي 1959 قرارا جديدا يعني القطاع وهو إنشاء لجنة التربية والثقافة، والتي سيتقرر بموجبها وضع التعليم الخاص تحت وصاية وزارة التربية الوطنية.

أما في السنة الموالية وهي 1960، فقد أحدث معهد الدراسات والبحوث حول التعريب، في أفق تعريب المواد العلمية في السلك الابتدائي. وهو ما حدث في السنة نفسها. وقد اعتبرت هذه الخطوة بداية الانعتاق من هيمنة اللغة والثقافة الفرنسيين.

لم ينعقد أول اجتماع للمجلس الأعلى للتعليم إلا في 1961، لكنه فشل في القيام بدوره التربوي الذي انتظرته منه الأسر والمربون، لأن الحصيلة هي أن القطاع سيعود للارتباك حينما سيتقرر مرة أخرى إلغاء تعريب المواد العلمية من سلك التعليم الابتدائي.

وفي سنة 1964 ستعرف المدرسة المغربية تحولا عميقا حينما تقرر تنظيم مناظرة وطنية حول التعليم بالمعمورة. ومن أهم خلاصات هذه المناظرة الأولى في القطاع، الاقرار بأن لغة التعليم في جميع المراحل هي اللغة العربية. ولا يشرع في تعليم اللغات الأجنبية إلا ابتداء من التعليم الثانوي.

وما بين سنة 1957و 1965، وهي سنوات ما عرف بالمخطط الثلاثي، ستعرف المدرسة المغربية تراجعا خطيرا مس المبادئ الأساسية التي بنيت عليها المدرسة المغربية في عهد الاستقلال وهي التعريب والتوحيد والمغربة، بمبرر أن ميزانية التعليم في حاجة للتقليص بسبب ارتفاع فاتورتها.

لقد استمر هذا الشد والجذب على مدى عقود طويلة وفي كل مرة كانت الفرنكوفونية تنتصر على التعريب وتفرض توجهاتها الفاشلة على منظومتنا التعليمية، ثم عادت من جديد في 2019 بصفة رسمية بعد التصويت على القانون الإطار. لكن الدرس المستفاد من هذه التجربة الطويلة هو أن الفرنكوفونية بما تمتلكه من إمكانات ونفوذ أقوى من أن تواجهها التيارات والأفكار الوطنية والقومية. فمن أين تستمد هذه القوة داخل المغرب؟

عصب الاقتصاد في يد الفرنكوفونيين

لقد حاول رئيس الحكومة سعد الدين العثماني ونظيره الفرنسي إدوارد فيليب خلال اجتماع اللجنة الفرنسية المغربية المشتركة قبل يومين الظهور بمظهر الانسجام والتناغم، من خلال لغة الخشب التي تتحدث عن العلاقات التاريخية والروابط الإنسانية، وكذا تقديم بعض القروض والمساعدات، لكن هذا العرس الإعلامي لا يمكن أن يخفي أن طبيعة علاقة المغرب بفرنسا هي علاقة سيد بمسود.

إن قلق فرنسا من منافسة صينية محتملة في مشروع القطار السريع، وتخوفها من المنافسة الإسبانية في مجال الهيمنة على السوق المغربية هو الذي يوجه هذه الأيام دفة العلاقات بين البلدين.

وقد ظل الدفاع المستميت لفرنسا عن وجودها الاقتصادي في المغرب، يعبر عن استمرار العقلية “الاستعمارية” في تدبير العلاقات الثانية مع هذا البلد، الذي ظلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة ترى فيه فقط البقرة الحلوب التي تضخ الثروات والأرباح في خزائن الشركات الأم في فرنسا.

ورغم وجود 80 ألف فرنسي في المغرب ووجود حوالي 750 شركة فرنسية تعمل في المغرب، وتوظفيها ما بين 80 إلى 100 ألف شخص، واستثمار فرنسا لحوالي ستة مليارات يورو في الشركات المغربية خلال السنوات العشر الأخيرة، ووصول المبادلات التجارية بين البلدين إلى 8 مليارات يورو، فإن فرنسا ظلت دائما قلقة على علاقاتها الاقتصادية مع المغرب. فقد تجاوزت إسبانيا لأول مرة فرنسا، كشريك تجاري للمغرب سنة 2012، وذلك رغم حالة التوتر التي تتخلل العلاقات المغربية الإسبانية بين الفينة والأخرى.

هذا القلق الاقتصادي والتجاري الفرنسي يعبر عن بعد اقتصادي واستراتيجي يجعل من السوق المغربية موضوع تنافس دولي بين الفرنسيين وغيرهم.

ويجمع المراقبون على أن الفرنسيين لا يتركون الفرصة تضيع في أي تقارب جديد مع المغرب، وهذا ما يبرر الانعقاد المفاجئ والسريع لاجتماع اللجنة المشتركة وخروجه بتلك المليونات من الأوروهات من القروض والمساعدات للمغرب في أفاق أن تحظى شركة “ألستوم” بمشروع القطار السريع مراكش أكادير.

وتظل سياسة الصفقات الكبرى وتمركز الرأسمال العمود الفقري للوجود الاقتصادي الفرنسي بالمغرب، فالتدبير المفوض لقطاع توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل مكن 4 شركات مفوض إليها من السيطرة على القطاع، حيث تغطي هذه الشركات المفوض إليها 46 جماعة، وأنجزت استثمارات إجمالية بـ 32.32 مليار درهم ورقم معاملات في حدود 10.82 مليار درهم في 2013.

وبسبب الضغوط التي يمارسها اللوبي الفرنسي، ظلت هذه الشركات تهرب أرباحها خارج المغرب، ولم تنجز الاستثمارات المتعاقد بشأنها، كما أنها قامت، في بعض الأحيان، باستخدام “صندوق الأشغال”، الذي يعد رافعة أساسية للاستثمار، في أغراض لا تتطابق والأهداف التي أنشئ من أجلها هذا الصندوق.

بالإضافة إلى أن عقود التوزيع التي تربط الجماعات بالشركات المفوض اليها، والتي من المفروض تعديلها كل 5 سنوات، لا تخضع للمراجعة إلا بعد مضي أكثر من 10 سنوات، بل إن التفاوض بشأنها ينتهي أحيانا دون نتيجة مما يترتب عنه اختلال التوازن المالي والاقتصادي لهذه العقود.

وتهيمن الشركات الفرنسية على 77.8 في المائة من الاستثمارات في بورصة الدار البيضاء، وهي تمثل تقريبا 22.5 في المائة في رسلمة البورصة. ويتخذ هذا الاستثمار الفرنسي، في أغلب الأحيان، شكل أخذ مساهمات استراتيجية، تمثل 90.4 في المائة.

ورغم التراجع النسبي لهيمنة البنوك الفرنسية بالمغرب منذ الأزمة المالية لسنة 2008، فإن طموح اللوبي الفرنسي وصل حد الطمع في أخذ حصة من كعكة البنوك الإسلامية التي رأت النور في السنوات الأخيرة بالمغرب المغرب.

هذه القوة المالية والاقتصادية هي التي تفتح أمام الفرنكوفونية الطريق فسيحا لتمرير برامجها ومخططاتها التي لا تقتصر على التعليم والاقتصاد بل تمتد إلى القوى الناعمة في السينما والتلفزيون والثقافة والرياضة.

ببغاوات فرنسا في التلفزيون والفن

كثيرا ما يتساءل الجمهور المتابع لكرة القدم عن سر إخفاقات المنتخب الوطني باستمرار، وكثيرا ما يطرح بعض الأذكياء السؤال القديم الجديد، لماذا يجب توظيف مدرب فرنسي دائما للإشراف على المنتخب؟ فعلى الرغم من فشل جل المدربين الفرنسيين في تحقيق نتائج محترمة مع النخبة الوطنية إلا أن رحيل مدرب قديم يعني تعويضه بمدرب فرنسي آخر إلى أن أصبحت الجامعة الملكية لكرة القدم مرقدا للمدربين الفرنسيين الفاشلين في أغلبهم.

ولكن إذا فهم السبب بطل العجب. فالأمر لا يتعلق فقط باستقدام تقنيين ومدربين فرنسيين، وإنما باستنساخ منظومة فرنسية كاملة وتطبيقها في بيئة مغربية مختلفة تماما، بدء بالقانون الأساسي للجامعة الذي يعتبر نسخة طبق الأصل من القانون الفرنسي،كما يربط جامعة الكرة اتفاق مع الاتحاد الفرنسي، يقضي بالاستعانة بالأطر الفرنسية لتدريب جميع فئات المنتخب المغربي في الوقت الذي يتم فيه استبعاد وإقصاء الأطر الوطنية.

لكن أطر فرنسا لا تحتكر الكرة فقط في المغرب، بل هي منتشرة في كل الميادين رغم أن خبرتها تراجعت على الصعيد الدولي، وبرزت منافسة لأطر محلية ودولية مرموقة.

وتعد مدينة مراكش بكل مرافقها ومهرجاناتها ومبادراتها نموذجا للإشعاع الفرنكوفوني المتعفن في المغرب. ويعكس مهرجان السينما العالمية بمراكش هذا الهوس والخضوع غير المفهوم لفرنسا وفنانيها ومثقفيها وإعلامها.

فقد اعتاد الجمهور أن يتابع دائما أحداث الإقصاء الذي يتعرض له الفنانون المغاربة لضمان نقاء السجادة الحمراء واحتكارها من طرف الأجانب وعلى رأسهم الفرنسيين بالدرجة الأولى. وهو ما يجسده أيضا مهرجان مراكش للضحك الذي أصبح ملحقة لوزارة الثقافة الفرنسية لعرض تجارب بعض الكوميديين الشباب مع استفادة بعض الفنانين من ذوي الأصول المغربية من ريع هذا المهرجان السياحي بالأساس. لكن الحديث عن السينما والفن لا يمكن أن يكتمل دون الإشارة إلى ما يمثله الحضور الفرنكوفوني الفاشل في الأعمال السينمائية المغربية التي تحاول باستمرار تغطية ضعفها الفني بإدماج الحوارات الفرنسية بتشجيع دائم من المركز السينمائي المغربي.

لكن أكبر ملحقة إعلامية فرنسية هي التي تمثلها اليوم القناتان الثانية وميدي1 تيفي، بما تصران عليه من تحقير للبرامج والمواد العربية مقابل تعزيز الحضور اللغوي الفرنسي.

فالقناة الثانية التي تعاني من حالة إفلاس مزمن دفعت الحكومة مرة أخرى لفرض إتاوات على المواطنين لإنقاذها علما أنها تصر دائما على مخاطبة هؤلاء المواطنين أنفسهم بلغة المستعمر في برامج لا يتابعها أحد وتعتبرها القناة من أنجح برامجها.

وتظهر المقارنة بين هذه البرامج أن القناة الثانية تحرص باستمرار في إنتاجاتها على تقديم برامج عربية تافهة وترفيهية ينشطها من يسمون بالنجوم، بينما تمول إنتاج برامج تاريخية وثقافية فرنكوفونية تظل حبيسة النظرة الفولكلورية موجهة للجمهور المغربي.

إن ربط التفاهة بالعربية والثقافة بالفرنسية جانب من جوانب الإيديولوجيا الفرنكوفونية في الإعلام التلفزيون المغربي.

تظهر هذه الأمثلة التي تعتبر غيضا من فيض الأحقاد الفرنسية الدفينة مدى استمرار خضوع النخبة ومراكز القرار في المغرب لتوجيهات باريس وإملاءاتها التي قادتنا بعد ستين عاما إلى البحث عن نموذج تنموي جديد لكن بنخبة فرنكوفونية مرة أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى