وطنية

عجائب بوحمارة الذي جر نصف المغرب وراءه

  • الحسين ايت بيهي

كانت وفاة السلطان مولاي الحسن الأول إيذانا بدخول المغرب في فتنة كبيرة، بعد أن آل الحكم إلى مولاي عبدالعزيز تحت تأثير والدته دوناً عن باقي إخوته، ما جعل الصدر الأعظم أحمد بن موسى الشرقي المعروف بـ”با حماد” ينصب نفسه وصيا على السلطان الصغير في وقت كانت الأطماع الأجنبية تهدد المغرب بقوة، خاصة منذ الهزيمة في معركة إيسلي عام 1844 أمام الفرنسيين وبعدها هزيمة معركة تيطاوين عام 1860، ما جعل المغرب يصبح مطمعا للبعثات الاستعمارية، لكن مع ذلك نجح باحماد طوال ست سنوات في حماية العرش العلوي، ومن أهم ما فعله أنه نجح في يناير 1899 في إجهاض انتفاضة مولاي رشيد، عم مولاي عبدالعزيز وعامل تافيلالت، وذلك عن طريق جعل فرع من قبيلة كلاوة ينفصلون عنه، قبل أن يفارق باحماد الحياة في العام الموالي، تاركا السلطان ألعوبة في يد الأجانب والوزراء الذين اختارهم لتدبير شؤون الحكم بعده، ومن أبرزهم وزير الحربية المهدي المنبهي ووزير الخارجية فضول غرنيط اللذين ساهمت سياستهما في اندلاع أخطر ثورة هددت وجود العرش العلوي في ظروف استثنائية، والتي عرفت تاريخيا بفتنة بوحمارة (من مواليد زرهون عام 1860) والتي لم يوضع لها حد إلا بعد سبع سنوات كان خلالها هذا الثائر على السلطان يسعى لأن يصل إلى هدفه الذي توقف يوم 9 شتنبر 1909 بساحة المشور في فاس رغم محاولته استغلال ما تعلمه داخل خدمته في القصور أو الاستعانة بالسحر والشعوذة في هذا السبيل.

 

 

القدرات السحرية التي كان يروج أنه يتمتع بها كان لها وقع كبير على استمالة أتباعه الذين نجح طوال سبع سنوات في إقناعهم بأنه «مولاي امحمد» الابن الأكبر لمولاي الحسن الأول والوريث الشرعي للعرش العلوي، مستفيدا في ذلك من اطلاعه على دواليب السلطة، فسيطر على المغرب الشرقي متخذا مدينة تازة عاصمة له، وأصبح يهدد السلطة المركزية نتيجة المساعدات الفرنسية والإسبانية التي حصل عليها مقابل استغلال الدولتين لمناجم المنطقة. هذه القدرات وجدت لها صدى حتى لدى الصحفيين الذين واكبوا ثورته ونقلوا تفاصيلها للقارئ الأوربي، الذي كان يترقب ما يحدث في الضفة الجنوبية للمتوسط بحثا عن مغامرة من أجل الثروة، خاصة وأن الأساطير كانت دائما تسير جنبا إلى جنب مع الغزاة الذين يعملون على تغذية هذه المعتقدات لدى الشعوب التي يستعدون لغزوها واستعمارها ونهب خيراتها، ولا شيء في تلك الظروف التي كان يعيشها المغرب أفضل من إظهار بوحمارة صاحب كرامات يتواصل مع السماء.

 

بوحمارة وسحر السطوة

 

رفع عينيه إلى السماء واسترق السمع إلى أصوات كان صداها يصله بمفرده، قبل إصدار أمره: «اذهبوا لإحضار الرجل الذي ترجل من على دابته ليشرب من ماء النهر في طريق تازة، والذي يستريح الآن تحت ظلال شجرة خروب».

توجهت مجموعة من الفرسان على الفور إلى المكان المحدد، ليعود الرجال ومعهم فلاح مسكين. سأل بوحمارة الرجل، بل أكد له: أنت رقاص تحمل رسالة من المخزن!؟

أنكر المسكين التهمة الموجهة إليه، فأمر بوحمارة بتفتيشه، لكن التفتيش لم يكشف عن شيء. وفجأة، سقط أرضا رغيف خبز من ملابس الرجل فطلب «العالم بالغيب» بتقسيمه، ليكتشف رجاله داخله رسالة تحمل الخاتم المخزني.

 

وبما أن إيمان سكان الجبل راسخ مثل إيمان العجائز، فلا أحد بينهم تجرأ على الإيماء بإمكانية كون رجل شجرة الخروب مجرد عميل لبوحمارة، والرسالة مجرد وثيقة مزورة!

 

هكذا ساهمت الصحفية الفرنسية كامبي دي غاست في الترويج لسطوة بوحمارة في مقال نشرته بمجلة «JE SUIS TOUT» بتاريخ 15 أكتوبر 1909 بعد إعدامه، حيث تقول: كانت خطب «الروكي» النارية تلهب الحشود المتحلقة حوله وتهيجها، وكان الرجل ذو الحمارة يصدح بأن الساعة قد دقت كي يرفع القناع، زاعما بأن اسمه مولاي امحمد، وبأنه ابن السلطان مولاي الحسن. وكان يضيف بأن العرش انتزع منه، معلنا مطالبته باسترجاعه. كان بوحمارة، المتضلع في علوم القرآن، يملك كذلك قدرات استثنائية لتنفيذ ألعاب سحرية، وهو ما كان يؤديه أمام الحاضرين ببراعة، مبهرا إياهم. في كثير من الأحيان، كان بوحمارة يترك ألاعبيه السحرية جانبا ليلجأ إلى الخداع من أجل حشد الدعم لدعوته التي كان يعتقد أنها ستسهل عليه مأمورية ادعائه كونه أحد أبناء السلطان الراحل مولاي الحسن مستفيدا من الوضع المتردي الذي كان يعيشه المغرب، حتى يحقق أهدافه إلى درجة أنه نجح خلال مسار خروجه عن سلطة السلطان في تكوين جيش خاص به، وتبادل المراسلات مع البعثات الأجنبية ووعد بمنح امتيازات استخراج المعادن من باطن الأرض، كما كون جيشا من بعض القبائل التي كانت تدين له بالولاء، خاصة وأن دعوته انطلقت من المغرب الشرقي وبدأت تتوسع في اتجاه عاصمة السلطان بفاس.

 

أولى خطوات البداية

 

أطلق عليه لقب «بوحمارة» بعد خروجه من صلاة الجمعة التي أداها في فاس راكبا «أتانا» خلال عهد مولاي عبدالعزيز ، فيما لقب بالروكي لكون رجل كان قبله اسمه «الجيلالي الروكي» حاول الانقضاض على العرش العلوي عام 1862 لكن السلطان العلوي محمد بن عبدالرحمان قضى عليه في أقل من شهرين، لذلك صار هذا اللقب يطلق على كل ثائر طامع في العرش. أما كنية الزرهوني فألصقت به لكونه من مواليد مدينة زرهون، لكن اسمه الحقيقي الذي كان يثبته في وثائق تعامله مع الدول الأجنبية هو الجيلالي بن عبدالسلام بن إدريس اليوسفي.

 

قبل ثورته، درس الهندسة الطبوغرافية في فاس وتلمسان والجزائر العاصمة وباريس، وكان موظفا في الجيش قبل أن يدخل إلى القصر السلطاني في مراكش ليشغل منصب كاتب لمولاي عمر شقيق مولاي عبدالعزيز، حيث ساعدته هذه المهمة في اكتساب الخبرة في كتابة الوثائق التي ربما ساعدته في تزوير عدد من الوثائق بحثا عن نسب شريف يقربه من كرسي العرش، فضلا عن أنه كان مزورا لهذه الوثائق التي كان يتلقى مقابلا ماديا لها وهذا ما أدى إلى إبعاده من القصر بمراكش بتهمة التآمر على السلطان. لكنه سرعان ما تمكن من الحصول على وظيفة مماثلة لدى قائد منطقة بني مطير بالشرق حمو الحسن، وهناك اختمرت في ذهنه فكرة الثورة على السلطان ليختفي قبل أن يعلن عن ثورته عام 1902، عندما بدأت الأخبار تتوارد عن ظهور رجل يجوب القرى والقبائل مبشرا بشيء لم يعهدوه من قبل. فأعلن أنه مولاي امحمد ابن السلطان الحسن الأول، مؤسسا زاوية عرفت باسم الطريقة النورانية، تم نشرها بين القبائل عن طريق نشرات خاصة بخط اليد كانت توزع على نطاق واسع، حسب محمد الصغير الخلوفي في كتابه «بوحمارة من الجهاد إلى التآمر»، مستغلا معرفته بالعلوم الشرعية والفقه في استمالة سكان القرى والقبائل التي كان يمر بها، فضلا عن براعته في مجال الخدع السحرية وقراءة حركات النجوم ومواقع الأفلاك، وهو ما جعل الزرهوني يستغل مواهبه إلى أقصى حد، فصارت دعوته تلقى القبول في أطراف كبيرة من شمال المغرب، في وقت كانت السلطة المركزية غارقة في بحر من المشاكل الداخلية والخارجية التي ستؤدي بالمغرب لاحقا إلى أتون الحماية الأجنبية.

 

السيطرة على المغرب الشرقي

 

اختار بوحمارة الانطلاق من المغرب الشرقي نحو الشمال، لأنه كان يرى أنه سيكون بمنأى عن قبضة المخزن بحكم بعد المنطقة عن فاس ومراكش، حيث كان يتمركز الحكم السلطاني بالكامل، معتقدا أن هذه المنطقة هي التربة الخصبة لنمو دعوته إلى الثورة والتمرد على السلطان. ولم تتردد هذه القبائل في مبايعته سلطانا على المغرب، ليغزو بعدها كثيرا من قبائل الشرق ويجبر قادتها على الانصياع له، وقد كان منهم من وقف في وجهه وقاتل حتى هلك دون ماله وعرضه وحريمه. بل وأدى الجدل حوله إلى اشتعال مواجهات بين القبائل نفسها ما بين مؤيدة له ومعارضة، ومن أبرز هذه المواجهات التي يذكرها التاريخ الصراع الذي نشب بين قبيلتي لمهاية بقيادة الحاج السهلي، وبني يزناسن التي تزعمها محمد الصغير ولد البشير، بعد أن دخل عرب لمهاية، المساندين لبوحمارة، مدينة وجدة. حيث دفعت مثل هذه الصراعات بوحمارة إلى الاغترار أكثر وإطلاق مزاعمه بأنه الابن البكر للسلطان الراحل الحسن الأول، مولاي امحمد وأدلى بوثائق لإثبات نسبه، متحولا بذلك من مجرد ثائر ومتمرد إلى سلطان، ومستغلا في ذلك علمه بالواقع السياسي المغربي وواقع مولاي امحمد الذي كان وقتها مسجونا من طرف أخيه مولاي عبدالعزيز.

 

تنظيمات دولة بوحمارة

 

في دورية لجنة إفريقيا الفرنسية الصادرة في يناير من عام 1903 تم نشر مقال تطرق إلى دعوة بوحمارة وتنصيب نفسه سلطانا، جاء فيه: بسبب الشبه بينهما، اعتقد العديد من المغاربة المغرر بهم أن الرجل ليس سوى مولاي امحمد، الأخ الأكبر للسلطان، الذي نحّته والدة مولاي عبدالعزيز عن العرش بعد موت مولاي الحسن. وبمجرد الولوج إلى تازة، في 25 أكتوبر، عين بوحمارة الوزراء، واستنسخ تنظيم البلاط الشريف، بل إنه شرع في استعمال المظلة الخضراء المفضلة لدى السلاطين. وبالإضافة إلى هذا، كان يحكم منطقة تمتد إلى حدود مائة كيلومتر حول تازة. وتفيد العديد من المصادر أنه كان يفعل ذلك بشكل جيد».

 

لم يكتف بوحمارة بذلك بل عمل على تكوين جيش خاص به، حيث كتب بهذا الخصوص الكاتب الفرنسي ريجينالد كان مقالا في مجلة «لوتور دي موند» عام 1904 يصف فيها هذا الجيش قائلا: يتكون جيش الروكي النظامي من مشاة وخيالة ومدفعية، وتطابق وحدات مشاة بوحمارة وحدات مشاة مولاي عبدالعزيز في كل شيء، في سبل التجنيد والتنظيم وفي الأسلحة، بل وحتى في الزي، مما يجعل قوة كل فريق متساوية مع قوة خصمه في هذا السلاح، وكما هو الأمر بالنسبة لبلاطه ومخزنه، فالمطالب بالعرش استنسخ ما سبق ورآه في فاس بالنسبة لهذا السلاح، وتعلم كل الشخصيات النافذة في القبائل، بما في ذلك القبائل النائية، أن المخزن كون فرقا من المشاة، تلقت تدريبا على الطريقة نفسها. مضيفا في ذات المقال: «إن الألقاب التي انتقاها المطالب بالعرش لوزرائه مجرد استنساخ للمناصب الوزارية لمخزن مولاي عبد العزيز، وقد أقدم على هذا الأمر بهدف التأثير في القبائل حتى يبدو مخزنه شرعيا، ومن أجل كسب اعتراف الدول الأجنبية. وفي الواقع، فبوحمارة لا يستشير إطلاقا موظفيه، بل يتكلف شخصيا بمتابعة كل القضايا، بما فيها القضايا التافهة. ولا يستثني الروكي أحدا، في سلوكه هذا، سوى الصدر الأعظم، سي صالح، رغم طمع هذا الأخير وجشعه، ذلك أنه ليس نصيرا عاديا له.

 

هزم السلطان

 

التدابير التي اتخذها بوحمارة جعلته قوة ضاربة تمكن من خلالها من هزم جيش السلطان عام 1902 ما زاد من توهجه وشهرته بين القبائل التي فرض عليها سطوته بلغة الترهيب والترغيب، فأصبح المخزن يحسب له ألف حساب، وعندما أحس باشتداد شوكته وصلابة عوده واجتماع القبائل من حوله، سارع إلى عقد اتفاقيات مع فرنسا وإسبانيا تسمح لهما باستغلال مناجم في المنطقة، حيث فازت فرنسا بصفقة لاستغلال منجم «أفرا» للرصاص، بينما بدأت إسبانيا في استغلال منجم «ويكسان» للحديد. ومقابل ذلك، حظي بوحمارة بدعم مالي من هذين البلدين، إضافة إلى تزويده بالأسلحة من أجل عصرنة جيشه المتعاظم في المنطقة.

 

مواقف العلماء من بوحمارة

 

ظهور حركة الجيلالي الزرهوني «بوحمارة» استفزت فقهاء ذلك العصر الذين أصدروا مجموعة من الفتاوى التي تعتبر ما يقوم به فتنة وجب التصدي لها من طرف السلطات المركزية.

أول هذه المواقف، حسب ما ورد في كتاب «بوحمارة من الجهاد إلى التآمر» كان موقف فقهاء مدينة فاس الرسمي وهي مقر السلطان الشرعي، حيث نجد علماء المدينة يصدرون بيانا في موضوع حركة بوحمارة في منشور تعرض لشخصية الرجل واعتبره غريبا عن الأسرة الحاكمة، وأنه ثائر وفتان خرج عن السلطان الشرعي. وهذه فكرة أساسية لأنها تخرج الصراع بين الرجلين عن إطاره العائلي الذي أراد بوحمارة أن يقحمه فيه. وقد خصصت مكافأة مالية لمن يقبض عليه، وكان هذا المنشور لا يعكس وجهة نظر السلطان مولاي عبدالعزيز من بوحمارة وحركته فقط، بل يعكس كذلك موقف الفقهاء الموالين له، الذين اجتمعوا بجامع القروبين، غير أن هناك فريقا آخر من فقهاء مدينة فاس وعلمائها ساند حركة بوحمارة. فقد جاء في كتاب «إيليغ قديما وحديثا» ما نصه: «اغتر به حتى كبار علماء القرويين، فقد كان العلامة سيدي أحمد بن الخياط وتلميذه العلامة سيدي الفاطمي الشرادي عند السيد محمد بن العباس الجامعي في غرسة الشفشاوني بفاس بمناسبة حفلات شعبان ومعهما تلميذهما العلامة الخير الصالح سيدي بن الحاج إدريس بن محمد الجامعي وأبو حمارة على أبواب فاس فاستبشروا خيرا بقرب دخوله وأظهروا الفرح».

 

كما أن هناك مصادر أجنبية تحدثت عن الاتصالات التي وقعت بين شيخ الزاوية الكتانية بفاس عن طريق قبائل بني مطير أتباع الكتانيين وبوحمارة، حيث التقى الرجلان في معارضتهما للسلطان مولاي عبدالعزيز. أما علماء وفقهاء كل من الجنوب والمنطقة الشرقية والريف فقد دعموا الحركة ماديا وأدبيا بل إن رجال زوايا القطر الجزائري عملوا في صفوفها وكانوا من رجالات الساعة الأولى للحركة، وهكذا نجد زاوية سيدي أحمد زروق تأوي بوحمارة عند جرحه في إحدى المعارك ضد السلطان الشرعي .

 

مواقف الفقهاء من فتنة بوحمارة انطلقت من كونه كان يركز في دعوته للقبائل على ضرورة الجهاد ضد المحتل الأجنبي الذي كان يتربص بالبلاد، وإثقال كاهل المخزن بالديون الخارجية، لذلك نجح في استمالة كثير منها، حيث وجه الرجل رسائل إلى مختلف الجهات، ومن أهمها تلك التي وجهت لقبيلة بني مسارة وقبيلة قلعية وكلف بتبليغ مضمونها الفقهاء والعلماء إلى كافة المناطق التي تدخل تحت نفوذها الروحي.

 

بداية النهاية

 

رغم كل الانتصارات التي حققها، كانت نهاية بوحمارة تلوح في الأفق بسبب فساد المحيطين به ومحاولة استغلال فتنته من أجل الاغتناء، لذلك بدأ يفقد سنده الشعبي خاصة بعد عزل السلطان مولاي عبدالعزيز وتولية أخيه مولاي عبدالحفيظ مكانه، حيث استشعر نهايته ليقود معركته الأخيرة ضد جيش السلطان في عام 1909، لكن بعد أن تأكد أن جيشه قد اقترب من نهايته، لجأ إلى مسجد في الزاوية الدرقاوية معتقدا بأن حياته ستكون بمنأى عن الخطر. لكن على الرغم من الطابع المقدس للزاوية، تعرضت للقصف ودمرت بالمدفعية الثقيلة التي قدمها للسلطان حلفاؤه الفرنسيون، ليتم القبض على بوحمارة مع 400 من جنوده وموظفيه واقتيدوا إلى مدينة فاس، لكن لم يصل منهم إليها سوى 160 على قيد الحياة، وتم وضع زعيمهم في قفص للطواف به في الشوارع حتى يراه الجميع ويتأكد من أن السلطة المركزية نجحت أخيرا في إيقاف واحد من العصاة الذين قضوا مضجعها طوال سبع سنوات.

 

 

هكذا أعدم بوحمارة

 

صبيحة يوم 9 شتنبر 1909، وبباحة القصر الملكي بفاس، أعطى السلطان مولاي عبدالحفيظ أمره بإعدام بوحمارة بعد سبع سنوات من العصيان والادعاء بأنه من صلب السلطان مولاي الحسن الأول وأنه الوريث الشرعي للعرش العلوي، ليتم إعدامه رميا بالرصاص بعدما استنكفت الأسود التي رمي لها في الوهلة الأولى عن التهامه حيا.

 

في كتابة «بوحمارة من الجهاد إلى التآمر»، يقول الكاتب محمد الصغير الخلوفي، في فصل حول نهاية هذا الفتان: سجن بوحمارة بالقصر الملكي بمدينة فاس في مكان يعرف بدويرية بوحمارة، ورغم العداء الذي يكنه مولاي عبدالحفيظ للرجل فإنه دخل معه في مفاوضات مبعثها محاولة الاستعانة بالأموال التي قد يكون جمعها من خلال انتصاراته على الجيوش العزيزية والاستيلاء على أموالها، وقد أغراه مولاي عبدالحفيظ بتوليته على مناطق المغرب الشرقي والريف ليخضعها لفائدة المخزن الشرعي، إذا سلم ثرواته. وما يبرر هذا التساهل مع أخطر منافس للمخزن الشرعي الشائعات التي كان يروجها الرأي العام حول كنوز بوحمارة العظيمة، بينما الخزينة السلطانية فارغة، وبالحصول على تلك الكنوز سيتمكن مولاي عبدالحفيظ من حل مشاكله المالية. ولا شك أن بوحمارة لم يكن مقتنعا بعروض السلطان إذ لم يعد له أمل في الحياة وقد تدهورت حالته الصحية، لذلك اصطبغت المحادثات بين الرجلين بالحدة والعنف. ولا شك أن بوحمارة قد مات رميا بالرصاص بواسطة القائد منو فدفن ولم يعلم بموته إلا الخواص، وقد استعجل السلطان موته بعدما لم يحصل منه على طائل.

 

أما الكاتب والإعلامي سعيد عاهد، وفي كتابه الصادر عام 2021 بعنوان «الفتان بوحمارة» والذي جمع فيه عددا من المقالات الصحفية والتحقيقات التي كتبها صحفيون أجانب عاصروا ثورة بوحمارة فكتب يقول: مع مطلع يوم الخميس 9 شتنبر 1909 الموافق للثالث والعشرين من شهر شعبان من عام 1327، تم إعدام الجيلالي بن عبدالسلام اليوسفي الزرهوني، المشهور في مغرب مطلع القرن العشرين بكنية «بوحمارة»، وبلقب «الروكي». اضطر يومها السلطان مولاي عبد الحفيظ إلى إصدار أوامره المطاعة بإعدام «الفتان» رميا بالرصاص في مشور بلاطه العامر بفاس، وهي التعليمات التي نفذتها على الفور مجموعة من العبيد. لم يكن حينها أمام السلطان خيار آخر غير الأمر باستعمال البنادق، خاصة بعد رفض الأسود التي تم إيداع بوحمارة في قفصها المعروض في ساحة البلاط الشريف، التهام هذا الأخير وإزهاق روحه. وحسب رواية أخرى يوردها عاهد في كتابه، زج بالجيلالي بن عبد السلام الزرهوني، الذي كان معروفا كذلك بامتلاك قدرات سحرية، في قفص الوحوش بالبلاط، وهي الحديقة التي كانت تضم ما سبق وجلبه الوزير المهدي المنبهي إلى مولاي عبد العزيز من بريطانيا من أسود وفهود ونمور. لم يفترس الأسد ضيف قفصه، واكتفى بتوجيه ضربة يتيمة إلى كتفيه بإحدى قوائمه، ومع إصرار الأسد على عدم افتراس الثائر، صاح مولاي عبدالحفيظ في جلسائه بأن الرجل ساحر بالفعل، ليأمر في اللحظة ذاتها بتصفيته بمجرد إخراجه من قفص الوحش.

 

وتضيف الرواية ذاتها بأن قرار الإعدام كان قد اتخذ ليلة تنفيذه. خلال اجتماع سري ترأسه السلطان، وحضره عدد من القواد المتمتعين بثقة مولاي عبدالحفيظ. وسواء صدقت الرواية الأولى أو الثانية، فالمؤكد أن «بوحمارة» ظل حبيس قفص في فاس، وأنه عرض على الملأ طيلة أيام، حتى يتأكد الجميع بأنه ليس مولاي امحمد الذي سبق لبوحمارة تقمص شخصيته، والمطالبة بالعرش باسمه. بل إن مولاي عبدالحفيظ، حسب كل الروايات، سيأمر بإحراق الجثة لتستحيل رمادا بعد سكب الغاز عليها، حتى يكف شبح صاحبها عن قض مضجعه، وحتى لا يستمر في منازعته حول العرش، بعد أن خاصم سلفه في الحكم مولاي عبدالعزيز هو الآخر.

 

بوحمارة كما ورد في كتابات الإعلام الغربي

 

في كتابه «الفتان بوحمارة .. محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له»، يستعيد الكاتب والإعلامي المغربي سعيد عاهد مجموعة من المقالات الصحفية التي كتبت خلال تلك الفترة التي كانت فيها مناطق المغرب تغلي وكان المراسلون الصحفيون يسعون للقاء بوحمارة كما حال الديبلوماسيين الذين كانوا يبحثون عن عقد تحالفات معه، حيث تعطينا هذه المقالات بعد مرور 113 عاما على إعدام هذا الفتان الذي كان أكبر خطر هدد العرش العلوي مع بداية القرن العشرين، فكرة عن كيف كان الغرب ينظر عموما إلى المغرب الذي قرر تقسيمه بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1905 والذي كان من أسباب إقالة مولاي عبدالعزيز وتولية مولاي عبدالحفيظ مكانه، وكيف كانوا يحاولون الاستفادة من الأوضاع القائمة لتحقيق غاياتهم وأهدافهم الاستعمارية.

 

المجلة نصف الشهرية الفرنسية «LAQUANZEINE» كتبت في عددها الصادر يوم فاتح غشت 1904 تقول: فشلت الحملة العسكرية الموجهة ضد بوحمارة مرتين متتاليتين بسبب التناقضات بين الوزراء المغاربة، وعجز خزينة الدولة. وبعد هذا الفشل المزدوج، أراد المنبهي، الوزير المفضل لدى السلطان، تحقيق نصر مدوّي فتوجه على رأس جيش قوامه خمسة آلاف رجل لمواجهة المطالب بالعرش. بصعوبة، استولى الوزير على تازة، لكن جيشه سيجبر على التوقف والكف عن الزحف، مما سيدفع الوزير إلى الاستنجاد بالسلطان الذي سيضطر، رغم وجود المحلة الإمبراطورية برمتها إلى جانبه، إلى التراجع بعد قطع مرحلتين انطلاقا من فاس. ولحسن الحظ، سيتم الربط بين محلة السلطان المعسكرة على بعد عشرين كيلومترا من طنجة والمنبهي المحاصر في تازة. ومع ذلك، ستتمخض عن الحملة نتائج دون المستوى، ما سيخلق ثورة صغيرة في القصر. وبالفعل، فقد دعي المنبهي، وزير الحرب الذي فقد سعة تأثيره ونفوذه، إلى القيام بسفر طويل المدة إلى مكة، وذلك في الوقت نفسه الذي كان خلفه في وزارة الحرب، سي محمد الكباص، يتسلق أدراج السلطة، وينصب ممثلي الحزب التقليدي المسن في دواليبها. وبسرعة، فطن المطالب بالعرش إلى أن الزمن أهم حليف له، وأنه عامل سيعمل لصالحه أفضل من أية قوة عسكرية.

 

أما قنصل فرنسا في فاس خلال تلك الفترة هنري غايار، فكتب في تقرير موجه إلى وزارة الخارجية الفرنسية يحكي تفاصيل وصول بوحمارة الأسير إلى فاس، مؤرخ بـ 25 غشت 1909 يقول فيه: بعد وصوله إلى فاس أمس (24 غشت) حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، تم نقله مباشرة إلى دار المخزن، وهو مغلول بالسلاسل داخل قفص حديدي يحمله جمل. قبلها، استدعى المخزن ساكنة العاصمة للحضور إلى ساحة المشور الكبرى التي ظلت أبوابها مفتوحة، هناك، كان الكثير من الخيالة يمارسون ألعاب الفروسية بحضور السلطان الجالس، رفقة وزرائه، أمام قبة مدخل القصر، مثلما كانت الفرق الموسيقية العسكرية تؤدي معزوفاتها على التوالي. اقتيد السجين أمام السلطان بعد الطواف به في أرجاء ساحة المشور. وهو رجل في العقد الخامس من العمر، شخص ليس ثمة أي وجه شبه بينه وبين مولاي امحمد. ورغم علامات التعب الشديد البادية عليه، كان هناك مؤشران دالان على تمتعه بقوة شخصية استثنائية: صلابة ملامحه، واللامبالاة المحتقرة التي رمق بها الحشود المتجمهرة. وتابع الأوربيون الملتئمون تحت القبة مجريات حديثه مع السلطان، وأبدوا جميعهم إعجابهم بتصرفه. أمر مولاي عبدالحفيظ بوضع القفص أمامه، وأمعن النظر هنيهة في الروكي ضاحكا، بينما ظل الأخير هادئ الأعصاب، ثم شرع في سؤاله:

• ما اسمك؟

• الجيلالي الزرهوني.

• لماذا يحمل خاتمك إذن اسم مولاي امحمد؟

• لا يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا.

• لماذا كنت متوجها إلى وزان؟

• للذهاب إلى مولاي عبد السلام قصد التفاوض حول الأمان، ذلك أنني، أعتقد، منذ مدة، أن قضيتي خاسرة. لكن هذه ليست اللحظة المناسبة للحديث عن هذا الموضوع، فقيادك، أبناء الكلب الذين يتوافقون على تعذيب أسير أكثر مما يتوافقون على القتال، سلبوني ملابسي وتركوني أتضور جوعا، دعني أولا أنال قسطا من الراحة وأتناول طعاما، وستجدني بعدها مستعدا للحديث معك إذا رغبت في ذلك، علما أنه لدي الكثير لأقوله.

 

منذهلا بهذا الجواب الذي نطق به صاحبه بهدوء تام، أمر السلطان بنقل الروكي إلى «بنيقة الحاجب» حيث تمكن من الأكل والشرب والاستراحة. وقبل إصدار أمره، قال له السلطان بنبرة ملغزة إنهم لن يقتلوه، ولن يبتروا أعضاءه، فرد عليه بوحمارة: كل واحد يقضي حين تحل ساعته.

 

أما أوغست مولييرا المستكشف الاستعماري الفرنسي المقيم في الجزائر فنزع إلى إضفاء نوع من القداسة والخرافة على شخصية بوحمارة في كتابه الذي نشره عام 1905 بعنوان «زكارة .. قبيلة زناتية غير مسلمة» خصص فيها فصلا لبوحمارة حيث كتب عنه: لا تأتوني بـ»المونة» (الأكل والشراب)، ولا بالأموال، كان يقول لزواره الكثر، فبركتي تكفي كل حاجياتي. كانت أقواله هذه تبدو صحيحة، وكيف لا، و»سربات» القبائل تجد لديه ما يكفي من الشعير لإطعام خيولها التي يفوق عددها المئات، وذلك دون أن ينضب مخزون كيس شعيره؟ وكيف لا، وقد كان يمنح لكل عابر سبيل، ونذل، ومتسول، قطعا نقدية من فئة مائة قرش، قطع نقدية يغرفها من «زعبولة» لا تنضب هي الأخرى؟ وأكثر من كل هذا، كان الأهالي يصفونه بامتلاك قدرات خارقة أخرى: القدرة على كشف اللصوص بمجرد التمعن في وجوههم، والتمتع بالقدرة على تبريد الرصاص، مما يجعل الطلقات النارية لا تصيبه بأدنى أذى».

 

وفي عدده المؤرخ بتاريخ 12 شتنبر 1909، سيولي الملحق المصور لأسبوعية «LE PETIT JOURNAL» اهتماما خاصا لاعتقال الروكي واقتياده إلى فاس داخل قفص، في مقال حمل عنوان «الروكي السجين ينقل داخل قفص إلى فاس مثل حيوان مفترس»، وهي عبارة عن شهادة شخص عاين الحدث، لكن الأسبوعية فضلت عدم الكشف عن هوية الشاهد، حيث كتب في المقال: وعقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة، شاع خبر وصول الموكب. ها هو يتقدم بخطى بطيئة، مع تموج حامله الشنيع: الجمل. «سفينة الصحراء» تأتي اليوم بحمولة غريبة وعجيبة: قفص من حديد ذو قضبان سميكة، لا يسمح علوه بوقوف رجل داخله؛ ومع ذلك، فهناك رجل داخل القفص، وهو مغلول بشدة. رجل مقرفص ذو وجه لفحته الشمس، وعينين مشعتين بالطاقة، ولحية سوداء كثيفة. هذا الرجل الذي يهتز محدثا الجلبة بسلاسله، هذا الرجل ليس سوى الروكي، عدو السلطان الذي لا يقهر، والذي سقط أخيرا في شراك الأسر… إنه هنا، وهو هادئ وفاتر ولا مبال، يتأمل بأنفة، ملؤها الاحتقار، هذا الحشد الوضيع والجبان الذي كان سيهتف بحياته لو أنه انتصر، والذي يبدو الآن ساخرا منه بعد هزيمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى