RABATTODAYالرئيسيةوطنية

خُدام الدولة أم “خُشداش” العصر الحديث ؟

Khod

الرباط اليوم
أثار رد وزيرين في الحكومة المغربية على فضيحة بيع عقارات بثمن بخس لكبار مسؤولي الدولة الكثير من الانتقادات، خاصة أن بيان الوزيرين برر هذا الامتياز التفضيلي بأنه موجه إلى من وصفهم بـ “خدام الدولة”. والمقصود بهذا التعبير في بيان الوزيرين المغربيين هم كبار موظفي الدولة. فهل كل موظف كبير في الدولة هو بالضرورة خادمها؟ هذا نقاش فلسفي قديم يتعلق بتحديد المفاهيم، مفهوم الدولة ومفهوم الخدمة، واليوم تحول إلى نقاش سياسي على المواقع الاجتماعية.

لم يكن الوزيران يتوقعان أن يكون لتبريرهما كل هذا الوقع، وأن يخلف استعمالهما لعبارة “خدام الدولة”، كل ردود الأفعال التي ما زالت تتفاعل.

فهذه العبارة ظهرت أول مرة في القرن الوسيط، ويعتقد أن أول من استعملها هو ملك بروسيا فرديريك الثالث الذي أطلق على نفسه لقب “خادم الدولة الأول”. مع أن مفهوم خدمة الدولة في تلك الأزمنة كانت تعني ممارسة وظائف فعلية مثل الجيش والقضاء والإدارة. وهي مجموع الخدمات التي كان من المفروض أن يقوم بها من يضع نفسه في خدمة “الأمير”.

لذلك فـ “خادم الدولة”، كان شخصا متحمسا لمهمته، يكرس كل جهده ووقته لها، لا تغريه المادة ولا يسعى وراء المناصب، كل هدفه هو رضاء “الأمير” بالمفهوم الميكيافيلي لهذه الكلمة، و”دولة الأمير”، بعيدا عن كل مصلحة خاصة وعن أي غاية شخصية.

وهذا المصطلح مستوحى من الثقافة الدينية المسيحية التي نجد فيها مصطلحا قريبا منه هو “خادم الله”، وهو الشخص الذي يعمل من أجل الصلاح، ويسعى لفعل الخير لدرء فعل الشر. وفي السابق كان كبار موظفي الدولة من رجال الدين، يضعون خدمة “الدولة” و”الأمير” على رأس أوليتهم إن لم تكن هي أولويتهم الوحيدة.

وفي فرنسا الحديثة ما بعد الثورة، التي قامت حول مفهوم الدولة، وبالضبط في عهد الجمهورية الثالثة، تقوى جهاز الدولة، الذي أصبح يلعب دورا حاسما في ترسيخ المبادئ السياسية والاجتماعية للجمهورية الفرنسية، فظهر استعمال مصطلح “خدام الدولة”، أي كل الموظفين الذين يضعون أنفسهم في خدمة مبادئ “الجمهورية”، أي مجموع السلطات السيادية التي تمثلها الدولة، والتي كانت محتكرة في السابق من طرف “الملك” أو “الأمير”، والمتمثلة في الشرطة لحفظ الأمن العام، والقضاء، لحل النزاعات بين المواطنين، والدفاع، للحفاظ على الوحدة الترابية، وصك النقود.. فكل هذه السلطات ومن يقوم بها يكون في خدمة الدولة لتحقيق أهدافها السياسية ويحمل لقب “خادم الدولة”.

وفي الثقافة الإسلامية، ظهر مصطلح قريب من “خدام الدولة”، عند المماليك، الذين حكموا، أكثر من قرنين ونصف من الزمن (1250ء1517م)، بلاد مصر والشام. إنه مصطلح “الخُشْداش”، وهو لفض فارسي معناه الخادم، لكنه نقيض لمصطلح “خادم الدولة” في الثقافة الغربية.

فـ “الخشداش” هم مجموعة الأشخاص الذين تجمع بينهم رابطة “الخشداشية” (أي الزمالة)، ويضعون أنفسهم في خدمة الأمير، وهم رجال استُقدِموا كـ “مماليك”، أي مملوكين لأسيادهم، في درجة ما بين العبيد والأحرار، ودُرِّبوا ليكونوا جنـودا وحكـاما وسياسيين يتولون الوظائف العليا، أي أنهم كانوا بمثابة ” تكنقراط” ذاك العصر، لكنهم سرعان ما انقلبوا على أسيادهم وأصبحوا حكاما.

وتصف كتب التاريخ المماليك بأنهم كانوا يجمعون ما بين الفضيلة والرذيلة على حد سواء، فضيلة العلم الذي تلقوه والإتقان الذي كانوا يتدربون عليه، وفي نفس الوقت الرذيلة المتمثلة في غدرهم بأسيادهم وحبهم للسلطة والمال. وتجسدت قوة المماليك في رابطتهم “الخشداشية” التي كانت توحِّد بقوة أفرادَ هذه الطبقة ضد الطبقات الأخرى داخل المجتمع.

وعندما نتأمل الواقع المغربي اليوم سنجد أن من يوصفون بـ “خدام الدولة” في الثقافة المخزنية، هم من يسعون إلى خدمة القصر بالدرجة الأولى قبل خدمة الوطن، وأغلب هؤلاء من “التكنوقراط” المتحمسين إلى الارتقاء في المناصب ومراكمة المكاسب. أو من “السياسيين” الذين ينعمون برعاية القصر ويستفيدون من القرب منه. وهؤلاء إنما يخدمون القصر لخدمة أنفسهم ومصالحهم، وأغلبهم انقلب على القصر من الجنرال محمد أوفقير إلى الجنرال أحمد الدليمي وآخرهم ولن يكون الأخير هو إدريس البصري.

لذلك فـ “خدام الدولة” في المغرب هم أقرب إلى “الخٌشداش” في عهد المماليك، منهم إلى “خدام الدولة” في عهد الجمهورية الثالثة في فرنسا. وشتان ما بين الخادمين، خادم مصلحته وخادم مصلحة الدولة. أما خُدام الوطن فهم كل المواطنين الشرفاء الذين يعتزون بشرف الانتماء إلى وطن، والدفاع عنه بدون مقابل أو امتياز أو تفضيل أو امتنان على أي كان.. لا يريدون جزاء ولا ينتظرون شكورا.
علي انوزلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى