الرئيسيةالرباط اليوم

الوداية على وقع زقزقة اللقلاق.. التاريخ ما قبل الميلاد

Marrocos-Kasbah-Oudaya-Rabat-Luis-Filipe-Gaspar

الرباط اليوم

يمسك الشاب التونسي “زهير” بطرف حائط وسط “قصبة الوداية”، أحد أهم المعالم التاريخية في الرباط، يمعن النظر في تقاطعات الأزرق والأبيض على جدران البناية التاريخية، قائلا “هذه البيوت والزقاق تشبه إلى درجة التطابق المدينة القديمة لسيدي بوسعيد قرب العاصمة تونس”.
لا يبدو زهير أول من انبهر أمام التشابه الكبير بين هذين المعلمين التاريخيين، فعلى حائط آخر في نهاية الحي السكني في “الوداية” كتب أحدهم “هنا تونس”، قبل أن يتم محوها، فيما يبدو، من طرف القائمين على الإدارة السياحية للقصبة.. لكنها لم تختف بالكامل، مخلدة ذكرى سائح عربي انبهر بالتشابه بين المكانين.. وربما بين الإنسان هنا وهناك.
“الوداية” ليست معلمة سياحية فحسب، كما أنها لا تمثل فقط مكانا لأحداث دارت في التاريخ، بل هي قصة أكبر، تعكس التواصل البشري والجغرافي والتاريخي بين شعوب شمال إفريقيا، والمهاجرين القادمين من جزيرة العرب، ومن الأندلس.. “هي علامة ودليل على رحابة صدور المغاربة واستيعابهم لكل القادمين” بعبارة عبد الحق، الدليل السياحي الذي يقف على البوابة الرئيسية للقصبة، منتظراً سياحا سيسرد لهم قصة “الوداية” التي يحفظها عن ظهر قلب، ويرددها دون تفكير، رغم تفاعله معها. لكن حين تطرح السؤال “لماذا سميت “الوداية” بهذا الاسم؟”، يسرد جزءاً من القصة التي حفظها منذ سنوات، وفي الأخير، يصل إلى القول إن الاسم مشتق من قبائل “الوداية” العربية، التي فتح السلطانان العلويان مولاي سلميان وبعده مولاي عبد الرحمن أبواب القصبة أمام جيشيهما اللذين اتخذاهما حرساً ملكيا خاصا. يتنهد عبد الحق، ويوقف روايته مؤقتا عند هذا الحد.
تقول كتب التاريخ إن “الوداية” تنسب إلى رجل يدعى “أدي بن حسان بن مختار بن محمد بن معقل”، و”أدي” هو جدهم، وجد أغلبية قبائل بني حسان التي تقطن الأقاليم الصحراوية، وموريتانيا، وأجزاء من الجزائر، ومالي، وحتى النيجر. وهم أحد أكبر فروع القبائل المعقلية العربية، والتي توجد منها فروع عديدة في المغرب، وتوجد أيضا فروع لـ “الوداية” في الرباط، وفاس، ومكناس، ومراكش، فقد ودعتهم فروعهم الأخرى وغادرت.
هاجر جزء من تلك القبائل جنوباً، حاملاً معه الاسم الآخر “بني حسان”، ولهجتهم الحسانية العربية، تاركين ذكرى قصبة الوداية، و”كيش الوداية” في ضاحية الرباط، والوداية في مراكش، ومناطق أخرى مروا عليها في رحلة هجرتهم الطويلة ضمن قبائل بني معقل وبني سليم، والتي بدأت من شبه الجزيرة العربية قبل قرون، مروراً بمصر وتونس وليبيا، وفي كل تلك المحطات اعترضتهم مشاكل، ودخلوا في صراعات، ورغم ذلك، تركوا فروعاً منهم مازالت قائمة إلى الآن. وتواصلت الرحلة نحو المغرب، فدخل بنو معقل في طاعة الدولة المرينية، وكانت بدايات هجرتهم جنوباً نحو موريتانيا الحالية بداية القرن الثالث عشر ميلادي، وفيها توزعوا إلى اثني عشرة فرعا.
كان “زهير” برفقة ثلاثة أصدقاء، يجمعهم شيء واحد وهو اكتشاف “الوداية” لأول مرة، اثنان منهم من موريتانيا، وآخر من دولة بنين. بالنسبة إلى زهير، فهو يسأل عن سر تشابه المكان مع “شقيقه” سيدي بوسعيد، الألوان نفسها، الجدران نفسها، وحتى تعرجات الزقاق تبدو متطابقة. يجيب الدليل السياحي عبد الحق على الفور قائلا “غالبية دول شمال إفريقيا متأثرة ببعضها، وتشترك في التأثر بالتراث الروماني، إضافة إلى التراث الأندلسي، وإن كان المغرب متأثراً بدرجة أكبر”.
أما الموريتانيان (محمد الأمين والغالي) فيتلمسان خطى أحفاد جدهما “أدي”، الذين مروا من هنا ذات يوم، وواصلوا السير في رحلة لم يوقفها إلا نهر السنغال، وانتهاء حدود المجموعات الصنهاجية (كدالة، ومستوفة، ولمتونة) التي اندمج معها الوافدون، وفرضوا سيطرتهم العسكرية في محيطهم الجديد. بالنسبة إلى صديقهم البنيني، كان همه الأكبر هو اكتشاف روعة المكان، ومتابعة جموع طيور اللقلاق المنتشرة هناك، وهي تزقزق على وقع خرير الماء، وقراءة الوجوه، وتخص هذا المكان بوجودها الدائم.
تثير نقاشات زوار القصبة الأشهر في الرباط ذاكرة “عبد الحق”، فيشير إلى رمزيتها الكبيرة، يقول لرفاقه الذين أسلموا له مسامعهم، إن القصبة سبقت قبائل الوداية بفترة طويلة، فقد كانت قائمة قبل “المرابطين” الذين بدأوا في استغلالها، وشيدوا فيها التحصينات لمواجهة قبيلة “برغواطة” التي كانت تثير حفيظتهم في ضفتي نهر “أبو رقراق”، وبعدهم جاء الموحدون، ليحولوا المكان إلى قاعدة للحكم وتدبير أمور الدين والدنيا، وللمورسكيين بصماتهم الخالدة في تاريخ القصبة. لكن مع الدولة العلوية ستحمل القصبة اسم القبيلة التي سكنتها.
حكايات عبد الحق لا تتوقف، رغم أنه يعيد بعضها لأكثر من مرة، لكنها تعبر عن احتضان الرباط لذاكرة تاريخية وجغرافية تتسع شرقا وجنوباً، متجاوزة الحدود التقليدية، عنوانها الأبرز اسمه “قصبة الوداية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى