وطنية

العبيد، الحرطانيين، إسمغ، تاوايا.. العبيد بالمغرب بين طابو العنصرية والاستغلال والتواطؤ

الرباط اليوم

العبيد ، الحرطانيين ، إسمغ ، تاوايا، مسميات تختلف في تعابيرها لكنها تتوحد في إشارتها إلى من عاشوا ويعيشون العبودية في المغرب.

صحيح أن زمن العبودية انتهى، إلا أن آثاره لازالت تلقي بظلالها عليهم، فبالرغمِ من أن القانون المغربي يمنع امتلاك العبيد ، إلا أن الأعراف القبلية تنظر إلى ذوي البشرة السوداء نظرة دونية، ليقاسي من يلقبون بأحفاد العبيد في صمت.

تجلس خديجة الطبيبة الشابة رفقة زوجها المهندس غالي في مطعم فاخر من مطاعم الدار البيضاء. أمامهما وضعا الطفل الرضيع الذي يبلغ من العمر بضعة أشهر، وإلى جانبه شقيقته التي تبلغ من العمر خمس سنوات. يتحدث الزوجان بلغة فرنسية متقنة وفي الكرسي الجانبي من الطاولة تجلس امراة سوداء البشرة تبدو من أصول إفريقية، وبين الفينة والأخرى تقوم من مكانها لتعدل من جلسة الرضيع على الكرسي الخاص به، وتعود لمكانها في انتظار تعليمات الزوجة. يتضح من انتظار المرأة حتى يكمل الزوجان طعامهما أنها خادمة وليتأكد هذا الانطباع تقوم فجأة من مكانها لأخذ الفتاة الصغيرة إلى المرحاض بإذن من والدتها.

هذا المشهد أصبح متكررا في أوساط الطبقة الغنية والأرستقراطية في أوساط العائلات البيضاوية والرباطية. هناك حرص غير مفهوم على استقدام خادمات ملونات قد لا يكون السبب وراء استقدامهن براعتهن وأمانتهن فقط، وإنما للظاهرة جذور نفسية واجتماعية تاريخية لم يتخلص منها المجتمع المغربي. هكذا يفسر المعطي منجب المؤرخ بجامعة محمد الخامس والذي ربط في أحد حواراته الصحفية بين هذه الظاهرة المتنامية وظاهرة العبودية المتجذرة في تاريخ المغرب. لكن هل العبودية جزء فقط من تاريخ المغرب أم أن مظاهرها وممارساتها لا تزال حاضرة في المجتمع؟

الرقيق الأبيض

ما زال هناك أكثر من 40 مليون شخص حول العالم عالقين ويعيشون في ظل العبودية الحديثة؛ بما في ذلك “عدد كبير من الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا”، حسب مؤشر العبودية لسنة 2018 الصادر عن المؤسسة الدولية “فري وولك”.

في العام الماضي احتل المغرب المرتبة الـ121 في تقرير “المؤشر العالمي للعبودية”، والذي نشرته المنظمة غير الربحية “Walk Free Foundation” التي يوجد مقرها بأستراليا، حيث يصلُ عدد الذين يعانون من العبودية الحديثة إلى 85 ألف شخص، معظمهم يتعرض لأشكال قاسية من العبودية.

ولفت التقرير الدولي الانتباه إلى أن “مظاهر العبودية الحديثة باتت تتخذ أشكالاً جديدة بالمغرب؛ من بينها “إجبار النساء على الخدمة المنزلية أو الدعارة والاتجار في البشر والاستغلال الجنسي للعاملات”، وهو ما جعله يحتل المرتبة الـ121 في الوثيقة ذاتها التي شملت 167 دولة. وقد استند التقرير إلى مقاييس مجتمعية لثلاثة عوامل؛ منها تقدير انتشار الرق الحديث بالنسبة إلى إجمالي السكان، ومقياس زواج الأطفال، ومقياس الاتجار بالبشر داخل وخارج البلد.

وبالنسبة إلى المنظمة، فإن الفساد هو السبب الرئيسي في انتشار ظاهرة العبودية، وليس الفقر مثلما هو متداول لدى عامة الناس. ويتجسد ذلك من خلال أنشطة الاتجار بالبشر والتشغيل المقيد بشروط قاسية، والزواج القسري وبيع الأطفال بغرض استغلالهم في الدعارة. وبالنظر إلى انتشار الظاهرتين معا في المغرب أي الفساد والفقر، فإن واقع العبودية قد يكون أسوأ بكثير مما أورده التقرير.

فأرقام الاستغلال الجنسي للعاهرات في مدن السياحة الجنسية مقلقة جدا، وبينما تعترف وزارة الصحة بوجود 19 ألف عاملة من عاملات الجنس في محور الدار البيضاء الرباط أكادير وطنجة، تتحدث جمعيات المجتمع المدني عن أرقام مضاعفة خصوصا إذا علمنا أن العاهرات اللواتي ينشطن تحت رقابة عصابات المافيا في إسبانيا وتركيا وبعض دول الخليج تفوق عشرات الآلاف.

تشريعات استعبادية

لكن واقع العبودية بالمغرب لا يتجسد فقط من خلال هذه المظاهر الحديثة، فالمأساة أن هناك ظواهر تاريخية وثقافية واجتماعية لا تزال تضع المغرب ضمن نطاق دول العبودية بامتياز. فالكثير من الطقوس والعادات التي يتم الحفاظ عليها بدعوى الحفاظ على الموروث الثقافي تحمل في طياتها رمزية استعبادية خالصة.

في سنة 2011 أصدرت إحدى محاكم العاصمة الرباط حكما يحرم أسرة من الإرث في والدها الهالك بمبرّر أن “المدعي لم يكن أخا للهالك من أبيه وإنما هو ابن أمَة تسمى “سعادة” كانت مملوكة لجدّهم الحاج محمد بن عبد القادر بوجندار، اشتراها بوَلدها صالح، المدّعِي المذكور، واستدلوا على ذلك بموجب لفيف عدد 279 بتاريخ 20 -07 -1974 وبإراثة عبد القادر بوجندار”.. أيّد هذا الحكمَ المجلسُ الأعلى لاحقا، ضاربا عرض الحائط كل التزامات المغرب في مجال حقوق الإنسان!

هذه النادرة القضائية عكست إلى حد صارخ مدى تجذر الرواسب الاستعبادية وبقايا ممارسات النخاسة في المجتمع المغربي.

وتعود جذور القضية إلى سنة 1975 بعد وفاة رب العائلة صالح بوجندار، تاركا وراءه الكثير من العقارات، إذ أصدرت المحكمة قرارا بحرمان أبناء إحدى الزوجات (اسمها السّعدية) من الإرث لا لشيء سوى لأنّ والدتهم “أمَة”، وكانت في الأصل مملوكة لجدّهم الهالك الحاج محمد بن عبد القادر بوجندار اشتراها، مع ابنها صالح، المدّعي المذكور.

ولأول مرة في تاريخ محاكم المملكة بعد الاستقلال ترِدُ مثل هذه الصيغ التي تصنف المواطنين إلى “درجات”، وتقرّ ضمنيا بوجود الرّق والسماح به في المغرب.. ولأنّ العبيد لا حق لهم في الإرث في الشريعة الإسلامية ومصيرهم هو العبودية، ما لم يتم عتقهم، فقد حرمتهم المحكمة من إرث والدهم.

وتعتقد العائلة المحرومة، التي طرقت أبوابا كثيرة عساها تجد من يرد حقوقها التي تقول إنها اغتصبت بسبب تبريرات مغرقة في الغموض، أنّ فردا آخر يحمل الاسمَ نفسه ويتحدّر من أم غير “أمَة” هو الذي وجد “هذه الصيغة القانونية العجيبة” لحرمانهم من الإرث، ففي الوقت الذي كان والدهم يمتلك أراضيّ كثيرة وأموالا في البنوك لم يستطيعوا الوصول إليها، بل تم تحويلها -عن طريق المحكمة- إلى أفراد من العائلة نفسِها ليسوا أبناء الهالك صالح بوجندار.. اعتمادا على وثيقة عبارة عن لفيف يَعتبر الورثة مجرّد”أبناء خادم”، تم شراؤها، هي وابنها، في 1974..

إن هذا الحكم القضائي الذي خلق الجدل عند صدوره يعكس بجلاء أن منطق العبودية لا يسري فقط في ثقافة بعض أفراد المجتمع، وإنما لا يزال مترسبا حتى في أجهزة الدولة وفي تشريعاتها ونوازلها القضائية. ومن ثمة تجد تلك الصورة النمطية التي تربط بين الملونين والخدم حتى في إطار المؤسسات الرسمية تفسيرها، ما دام القضاء نفسه لا يزال يحرم بعض المواطنين من حقوقهم بمبرر العبودية والرق.

صورة نمطية

هذا الربط بين الملونين أو ذوي البشرة السوداء وبين الخدم، يختلط بمظاهر العنصرية الصارخة التي تعرفها الكثير من مناطق المغرب تجاه جماعات بشرية لا ذنب لها سوى اختلاف لونها عن الباقين. في القاموس المغربي العربي والأمازيغي لا تزال الكثير من مفردات العبودية منتشرة بالمعاني ذاتها وتحمل دلالات قدحية وغالبا ما تثار وتستعمل لإيذاء الآخرين نفسيا ووجدانيا، “الحرطاني” و”إسمغ” و”تاوايا” كلها نعوت لا ترتكز في إشاراتها العنصرية على اللون فقط، وإنما على ذلك الربط الدائم بين العبودية واللون الأسود. ولأن هذه المسألة ظلت باستمرار من طابوهات المجتمع، فإن هذه الصورة النمطية استمر تكريسها إلى يومنا هذا حتى في وسائل الإعلام الرسمية. كل المغاربة يتذكرون صورة ذلك الممثل الكوميدي أسود البشرة الذي كان باستمرار يتقمص أدوار الخادم سواء في الأعمال الكوميدية أو حتى الفانتازية والتاريخية، بل إن صورته النمطية هذه استغلت أيضا لأغراض تجارية إشهارية لتقديم منتوجات تذكر دائما بدور الخادم للأسياد مثل توظيفه في إشهارات إعداد وتقديم الشاي.

عبودية الماضي عنصرية الحاضر

قبل فترة أثار بعض من زملاء مهنة المتاعب موضوعا يعتبر أيضا من الطابوهات في المشهد الإعلامي، ويتعلق الأمر بغياب ذوي البشرة السوداء أمام كاميرات التلفزيون. وكان دافع هؤلاء الزملاء التساؤل إن كان الأمر غيابا أم تغييبا. فعلى مدى عقود طويلة من الزمن لم يسطع نجم مغربي واحد من بين مذيعي التلفزيون من ذوي البشرة السوداء علما أن المغاربة من مناطق الجنوب عرفوا دائما بتفوقهم وكفاءتهم الدراسية والعلمية التي جعلت الكثيرين منهم يبرعون في مجالات تخصصاتهم. لكن هذا النقاش عن العنصرية ضد المغاربة السود من الصحافيين، ظل رومانسيا ومتعاليا عن الواقع بالنظر أن هذه العنصرية لا تزال تمارس في الواقع بأبشع صورها في الكثير من الجهات والأقاليم مستندة إلى ذلك الأرث الذي أشرنا إليه في الربط بين العبودية والعنصرية.

ماذا ستقول عشرات الأسَر في دوار بكامله تجد نفسها محرومة من امتلاك الأرض التي عاشت عليها لمئات السنين، لا لشيء إلا لأنّ ساكنيها “حفدة للعبيد”. نعم حفدة للعبيد والأمر لا يتعلق بجزر الأنتيل وإنما بدوار يقع على بعد 15 كليومترا من مدينة القصر الكبير في شمال المغرب. في هذه المناطق حيث غالبية الساكنة من “جبالة” العرب والريفيين، يعتبر تواجد أقلية من السود حالة سوسيولوجية وإثنوغرافية شاذة، لكنها تفضح جانبا من العنصرية الدفينة في المجتمع المغربي تجاه الملونين، والتي تزكيها السلطات بدورها من خلال قراراتها الغريبة وتكرس تلك الصورة النمطية بين الملونين والعبودية.

فالإدارة المغربية لم تتورّع في تسجيل الدوار المذكور باسم “دوار العبيد ” في تناقض صارخ مع كل ما يتم ترويجه من التزام وطني بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تحرم تحقير الأفراد والجماعات، فما بالك بتسميتهم في وثائقَ رسمية “العبيد”! .

بعيدا عن دوار “العبيد” بحوالي 400 كيلومتر، وفي جماعة باب برّد في عمالة شفشاون يقع دوار آخر لا يوحي اسمه “خندق الرّيحان” بأي مظهر من مظاهر العنصرية، إلا أنّ سكان الدواوير المجاورة له يُصرّون على نعته بـ”دوار الكوحْل” أو “دوار العْبيدْ”، ويحتقرون أهله، ولا يرضون مصاهرتهم.. كما أنّ الإدارة الجماعية وكذا السلطات المحلية لم تتدخل لتخفيف وطأة العزلة عن “حفدة العبيد” في دوار الريحان، بل زادت من حدّتها، حيث إن الدوار غيرُ موجود على الخريطة السياسية ولا الإدارية! فلا يستطيع سكانه استخراجَ بطاقة التعريف الوطنية باسم عنوان الدوار الذي يسكنونه، لذلك يضطرّون إلى البحث عن سبل أخرى لاستخراج وثائقهم الثبوتية..

وحتى عندما استفادت جميع مداشر باب برد من الكهربة بقيّ دوار خندق الريحان “مظلما” لسنوات أخرى رغم أن سكانه لم يتوقفوا عن طرق الأبواب للمطالبة بربط دوارهم بشبكة الكهرباء منذ أعوام طويلة، فيما كان المكتب الوطني للكهرباء يبرر استثناء الدوار من الاستفادة من الإنارة بعدم وجود دليل رسميّ للانتماء الإداري للدوار إلى الدوائر الترابية المتواجدة في المنطقة، فالسلطات المحلية تركت دوار “العبيد” خارج التقسيم الإداري، فلا هم ينتمون إلى قبيلة غمارة ولا هم محسوبون على قبيلة بني أحمد.

الحرطانيين.. آخر عبيد المغرب

في الأقاليم الجنوبية حيث للقبيلة نفوذها ومكانتها الراسخة لا تزال الممارسات الرقية نمطا من أنماط الحياة المستترة وغير المعلنة. غير بعيد عن هذه الأقاليم تعتبر موريتانيا واحدة من بلدان العالم الاتي تعرف صراعا تاريخيا معروفا بين بقايا السود الأفارقة الذين يعاملون إلى يومنا هذا معاملة العبيد وبين فئة “البيضان” من العرب ذوي البشرة البيضاء. ورغم أن حدة هذا الصراع خفت منذ عقود في أقاليمنا الجنوبية إلا أن رواسبها لا تزال تضغط على المجتمع الصحراوي.

فأقصى ما يحلم به “الحرطاني” أي الصحراوي الذي لا ينتمي إلى قبيلة عربية عريقة، هو أن يمارس مهنة حارس الأمن الشخصي أو رعي الإبل. هذا ما يؤكده شاب من القبائل المهمشة يدعى سعد بوه كسر جدار الصمت في الصحراء ليحاول الدفاع عن فئة من المغاربة الصحراويين الذين لا تزال صورتهم مرتبطة بالعبودية وتؤثر على فرص ارتقائهم الاجتماعي.

حاول سعد بوه التحسيس بخطورة هذا الميز الذي يشق صف المواطنين في الصحراء بتأسيس جمعية أسماها “أخوك الحرطاني مهمش” لكن هذا التأسيس قوبل بالتجاهل والرفض من طرف السلطات العمومية.

ويؤكد سعد بوه الذي أصبح بمثابة الناطق الرسمي بفئة الحرطانيين، أن العبودية لا تزال سلوكا قائما في المناطق الجنوبية، ومن نتائجه العنصرية والميز الذي يمارس ضد الحرطانيين حسب سعد بوه، كحرمانهم من بطائق الإنعاش الوطني أو من السكن الموجه للفئات الهشّة.

وفي القاموس الحساني الصحراوي يعتبر الحرطاني مجرد عبيد لا ينبغي الالتفات إليهم كثيرا من طرف الأعيان. ورغم أن الحراطين ملكوا حريتهم رسميا مباشرة بعد المسيرة الخضراء إلا أنهم لا يزالون في نظر المجتمع الصحراوي المتشبع بموروثات الماضي مجرد مواطنين من الدرجة الثانية.

ونظرا للحساسية السياسية والأمنية المحيطة بقضايا الأقاليم الجنوبية فإن مناقشة هذه الظاهرة وواقع الحرطانيين يعتبر من الطابوهات الموغلة في التعتيم والتجاهل. أما ما يعانيه الحرطانيين المحتجزون في مخيمات تندوف فإنه مأساة إنسانية حقيقة لا تزال تنتظر من يلتفت إليها لإنقاذ آلاف من المغاربة الذين يعملون بنظام السخرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى