سياسة

الشاوي: لم يبق من العدالة والتنمية إلا ما غنمته قياداته وانكساره تعبير عن انتهاء مدة الصلاحية

  • حاورته: زينب مركز

في ظل توقعات كانت تؤكد احتمال حدوث أكبر عزوف سياسي، أعلنت وزارة الداخلية عن نسبة 50.53 بالمائة كنسبة للمشاركة، إلى ماذا يمكن أن نرجع ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات؟

> قد يكون في أساس المشاركة أكثر من عامل وسبب لا يمكن وصفها بدقة إلا من خلال بحث يعالجها كظاهرة ويحيط بواقعها ودواعيها، فضلا عن الدوافع التي قد تكون في أصل حدوثها في الفترة الخاصة بها. ومع ذلك فقد يتبادر إلى ذهن الملاحظ المهتم بمجريات الأحداث والتطورات، بصرف النظر عن التوقعات التي افترضها المتوقعون، أن يدرك إدراكًا عاما ثلاثة منها:

أولها أن نسبة المشاركة في ارتفاعها البادي قد تكون، في جانب منها على الأقل، بسبب المزاوجة بين اقتراعين في يوم واحد، لكل منهما ضوابطه ومجالاته المخصوصة والأهداف التنظيمية المرسومة له في العملية الديمقراطية الجاري بها العمل، ولكل منهما أيضا إغراءاته السياسية والاجتماعية مثل الوجاهة والترقية، ويبدو أن هذه العملية كانت مدروسة. وقد تكون ظروف الجائحة من دواعيها أيضا، بيد أن تجريبها بهذا الشكل المترادف يمكن أن يقود إلى استنتاج معين – بحكم الأهمية – سيحمل القائمين على رسم الخريطة الانتخابية تقدير أهميته المفترضة في التجنيد وتوسيع دائرة المشاركة وحث الأجيال الشابة ربما على اقتحام مجالات العمل السياسي لمحاربة العزوف وطمعا في الاستفادة من مغانمه كلما كانت الاستفادة مبررا من مبررات الاستقرار السياسي ودوام السلم الاجتماعي و»تطويع» المعارضة… إلخ.

وأرجّح كعامل ثان حملة «التجنيد» المكثفة والمتواصلة التي خيضت في الشبكات الاجتماعية، قبل الحملة الفعلية بوقت، وخصوصا من خلال المشاهدة البصرية عبر فيديوهات والتتبع الإعلامي الذي يستعرض المواقف والتصورات والبرامج الانتخابية على محدوديتها، لما أنتجته مختلف الأحزاب السياسية والقائمين على إعلامها، فضلا عن مناصريها من مختلف الأعمار، في الدعاية والصراع والتعبئة والإغراء والتناور… بدون قيد ولا شرط. وقد نال حزب العدالة والتنمية على سبيل المثال – من خلال رموزه الحكومية وغير الحكومية فضلا عن مواقف سياسته في إطار التدبير الحكومي – ما ناله من سباب وتبخيس غير مسبوقين في اتساعهما وتكرارهما وحدتهما، خصوصا في ارتباط مع التجربة الحكومية المباشرة والتأثيرات العامة التي أوجدتها الجائحة في الحياة اليومية لمختلف فئات المجتمع.

بالإضافة إلى ما تحدثت عنه من خلال بعد «الانتفاع» و«دمج الانتخابات في يوم واحد»، ألا يمكن إرجاع ارتفاع نسبة المشاركة المعلن عنها إلى جاذبية السوق الانتخابي ومردوديته وإلى نزوع وطني نما مع كورونا والصراع مع دول كبرى؟

> هذا ما كنت أود التأكيد على جانب منه في العوامل التالية المساهمة في الرفع من نسبة المشاركة، التي يمكن أن أحدد في العامل الثالث الذي قد تكون له علاقة بطبيعة الانتخابات الجماعية والتشريعية نفسها، وخصوصا في اجتذابها لفئات من الوجهاء والأعيان وأصحاب الحظوة والمال وقدرتهم المباشرة، عن طريق المال أو غيره، على إغراء الناخبين وحثهم على المشاركة ضمانا للأصوات المطلوبة لتحقيق الفوز، ومن الظواهر المثيرة في هذا المجال فوز مختلف رؤساء فرق كرة القدم مثلا في الاستحقاقات التي خاضوها بسهولة ويسر.

وأضيف إلى العامل الثالث التعبئة القائمة على الزبونية ودخول فئات شابة ومتعلمة، لم يسبق لها من قبل أن اهتمت بالعمل الجماعي ولا البرلماني، إلى حلبة السباق، إلى جانب العمل الذي قامت به في الدعاية والإعلام والتجنيد مستفيدة مما تتيحه وسائط التواصل من إمكانيات وسهولة في سبيل ذلك. ومن المرجح أن النقمة التي كانت تعبر عنها فئات اجتماعية (أغلبها منظمة) للسياسات المتبعة من طرف حزب العدالة والتنمية خلال ولايتين، ضمنت للكثيرين نوعا من التعبئة «السهلة» ضد المظالم الاقتصادية والاجتماعية التي تسبب فيها ذلك الحزب بكثير من السذاجة والانسياق التلقائي لمشترطات الرأسمال والسوق، فضلا عن الإكراهات البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد المغربي وطبيعة الاختيارات التي تفعل فيه.

ويبدو لي أن معظم المترشحين من خلال الأحزاب السياسية المتبارية للانتخابات الجماعية والتشريعية، عندما لم يوفقوا في تقديم برامج انتخابية مفيدة وواضحة مع ما قد يرتبط بها من التزام، توجهوا رأسا إلى استغلال مواقع التواصل الاجتماعي قصد الحث على المشاركة وطمعا في (التصويت لهم).. وربما مقابل وعود خاصة اشتراها غيرهم بالمال أو بغيره من المغريات المعروفة في التجارب الانتخابية المغربية.

وعموما فقد تبين أن المشاركة تعبر في المجمل، واسمحي لي أن أفتح قوسا هنا لعلي أتحفظ قليلا في ربطها بنمو وانكشاف «الأنا الوطني» الشوفيني في بعض مظاهره، الذي صار محسوسا في بعض القطاعات الاجتماعية والمبني، في نظر الكثيرين، على المخططات والتوجهات الاستراتيجية المفترضة – السياسية والاقتصادية وفي علاقة بالقضية الصحراوية – التي توجه الدولة المغربية ككيان إلى بناء القوة الإقليمية المنشودة، وتحوله إلى معادلة رئيسة في الصراعات الإقليمية القائمة في جنوب البحر الأبيض المتوسط وعلى صعيد القارة الإفريقية… وإلى حد ما في أوربا، عن نهوض وعي «وطني» يوجب، من باب المسؤولية المدنية، المساهمة في بناء المغرب المحلوم به على جميع المستويات المطلوبة باعتبارها مدار النضال الاجتماعي العام وفي مقدمتها: العيش الكريم، محاربة الاستغلال ومقاومة الفساد والريع، الديمقراطية الرشيدة، ضمان الحريات العامة غير منقوصة ولا مصادرة، التخفيف من حدة التفاوت الطبقي ومحو الفوارق الاجتماعية الضارة بالسلم المدني، التوزيع العادل للخيرات الوطنية وسواها…

وظهرت هذه النزعة أكثر، وفي قالب جدي في كثير من الأحيان، على مترشحي اليسار، بما في ذلك بعض مترشحي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأحزاب أخرى، بصيغة لم تكن معروفة عنهم، ما عدا فئة من المقاطعين منهم الذين حوصروا في أطر ضيقة لم تنفع معها شعاراتهم المعارضة ودعايتهم المناوئة كانت محدودة لأسباب كثيرة.

هذا مع الانتباه إلى أن النسبة المعلنة قد تتسم بالمبالغة النسبية، أو لا يمكن تفسيرها فقط، كما قال بذلك بعض المحللين، بالنقمة التي أبدتها قطاعات عريضة من المجتمع حيال السياسة الحكومية التي أجهزت بكثير من التحكم والخضوع على كثير من المكاسب المجنية من النضالات العامة التي خيضت في السابق. وربما كانت القاعدة، وقد تكون رسختها تجارب الاستحقاقات السابقة، أن المشاركة المكثفة، بما أن التصويت غير إلزامي، لا تكون فعلية إلا إذا ترافقت مع أحد الأمور الثلاثة المفترضة التي تقوي مفعولها.

من مثل ماذا؟

>1- أزمات اجتماعية وسياسية في غاية الحدة حين تتحول في التصور الديمقراطي المطلبي إلى أسلوب مواجهة وتطلع وأمل في التغيير.

2- استعمال المال في ارتباطه بالوجاهة، وهو عامل يجيش الناس بصورة لاواعية تقريبا فيشاركون بدون وعي حقيقي بأن انتخاب المترشح والتصويت عليه هو الدعم الواجب والمدفوع لفوزه بالمقعد الضروري، قبل أن يكون عملية ديمقراطية ومسؤولية مدنية واختيارا حرا للعروض التي تعرض عليه أو أمامه.

3- وهناك أخيرا الانتساب العائلي والقبلي بحكم البنية التقليدية المتوارثة، أو هما معا عاملين واجبين، وقد يقترنان بغيرهما كاستعمال المال، لتجنيد الداعمين وإسناد المرشح.

إلى أي حد يمكن الربط بين هذه المشاركة وعودة الثقة في حضن الدولة الراعية التي حمت المغاربة في زمن كورونا؟

> لا أرى في ما قامت به الدولة على عهد الجائحة التي طالت وما زالت تدمر يوميا وبصورة حادة قدرات عامة المواطنين على ممارسة الحياة بشكل طبيعي، القياس السابق على الجائحة، أي بدون قيود استثنائية لها تأثيرات فعلية شتى على الحريات والحركة والمعاش والنفس،أي نوع من أنواع الحماية… إن كان المقصود بها توفير الشروط الضرورية العامة الكفيلة بالوقاية التامة من الجائحة. ويكمن السبب من ناحية في غياب البنيات الصحية الكفيلة بضمان الحماية، هذا فضلا عن انعدام أو محدودية الوعي الصحي الضامن لذلك… وواقع الحال أن الدولة من خلال السياسات الحكومية المتبعة منذ عهود تركت القطاع الصحي نهبا لجميع الاختيارات العشوائية – بما في ذلك الخاصة – ولم توفر له، على مستوى الاستثمار، إلا في الحدود الدنيا ما يكفي لاحتياجاته مع تزايد عدد السكان وتنوع مطالبهم الصحية وتدني وضعهم الاقتصادي أمام الكلفة المتزايدة للتطبيب، لأن الحماية تدخل في باب المسؤولية الحكومية التي هي من اختصاص من يسيرون الشأن العام وهم مؤتمنون على ذلك بحكم المسؤولية التي تقلدوها، منتخبين أو معينين تعيينا رسميا.

لا يجب أن ننسى بأن الدولة المغربية، من خلال الأجهزة التي تكفلت بذلك، جعلت من الجائحة مناسبة مثلى لاختبار حقيقة ونوايا جميع الفئات المكونة للمجتمع برمته التي لم تكن على أدنى وعي بطبيعة الجائحة وكيفية انتشار الوباء وعدواه. وإذا استحضرنا أن ظهور الجائحة كان مفاجئا ومربكا في نفس الآن، وأن الدولة نفسها، إلا من الناحية الأمنية، لم تكن على استعداد كاف لمواجهة الطارئ من الحوادث والأمور التي تتطلب الاستعجال والفورية، لأمكن القول، دون إغفال مظاهر التخلف العام المرتبطة عموما بالبنيات الذهنية ذات الطبيعة الدينية والسحرية والنزوع الماورائي، لأمكن القول إن واجب الحماية التي يجب أن يتمتع بها المواطن لم تبرز بالقدر الكافي إلا بعد شيء من «التطويع» الذي التجأت إليه الدولة على مستوى الحريات والحقوق… لإرغام المواطنين على القبول بالأمر الواقع. وقد تمثل ذلك أيضا في أشكال الدعم (الصندوق) الذي حظيت به بعض الفئات، دون تجاهل الأخطاء التي ارتبطت بذلك وكانت مثار شكاوى كثيرة.

وإذا كان من الضروري أن يكون لهذا النوع من الحماية الذي قامت به الدولة أي أثر في بعث الحماس وتقوية المشاركة فلعله يتمثل قبل كل شيء في الحرص الذي رافق الإعلان عن تنظيم الانتخابات والالتزام بذلك مع جميع الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، هذا فضلا عن «الجدية المؤكدة» رغم شيوع الأخبار المعاكسة. ثم ذلك الإقناع الضروري بأهمية الانتخابات في تأهيل المجال السياسي ظرفيا «استراتيجية فاعلة في التوجه الدولتي لتجديد النُّخب» وإشباع رغبات المتطلعين إلى تغيير جموده البادي بناء على النهج الذي سارت عليه الحكومة على جميع المستويات، بما في ذلك مختلف الإجراءات المتعلقة بالجائحة وسواها. ويبدو لي أن الدولة رغبت في تجديد الحياة السياسية بعامة وقد بلغت مبلغا عظيما من الأزمة عبر عنها ملك البلاد من خلال كثير من الانتقادات والتساؤلات والتوجهات.. آخرها النموذج التنموي الجديد وتشخيصه الليبرالي لآفاق التطور والتغيير في المغرب. جو من الثقة والتدبير الفعال – وفيه جوانب من العنف والتحكم – للقرارات المتخذة في الوقاية من الجائحة واستتباب السلم الاجتماعي وغير ذلك… أمور قد تكون كلها أو بعضها قد حققت للمشاركة «المكثفة» ما كانت تحتاج إليه من أمل وانتظار وشوق للتغيير «ولو كان محدودا».

لنسلط الضوء على انهيار أو نكسة حزب العدالة والتنمية، إلى ماذا يمكن أن نعيد الأمر، هل إلى كون الحزب الإسلامي كان يتمتع بأغلبية مستعارة تخلت عنه؟ وهل أغلق القوس الإسلامي وانتهى بعبع الاكتساح الذي ظل هاجسا لدى باقي المتنافسين والدولة نفسها؟

> خضع حزب العدالة والتنمية لدورة سياسية تاريخية ذات أبعاد إيديولوجية وتنظيمية سبق لغيره من الأحزاب أن خضعت لها بهذا القدر أو ذاك من التشابه والمآل وطبيعة الوجود في المجال الشرعي القائم، بطبيعة الحال، على التسليم الطوعي بالإكراهات المرسومة فيه والمتطلبات الواجبة على من فيه.

ويمكن اعتبار الدورة التاريخية المذكورة، التي تقفل عادة في علاقة بالسلطة لا بالمعارضة، بمثابة نهاية محتمة للدور السياسي الذي ترتسم معالمه في الظرفية السياسية المناسبة: حزب «الاتحاد الاشتراكي» في علاقة بانتقال الملك، حزب «العدالة والتنمية» في علاقة بما سمي بالربيع العربي، «حزب الاستقلال» من قبل في علاقة (بعشرية التقويم الهيكلي…) وتنتهي صلاحيته، في ارتباط بطبيعة تدبير الحكومة ومقدار الاستجابة من عدمها للضغوط الاجتماعية أو لمراكز التحكم أو لغير هذا وذاك…

وبهذا المعنى فقد وجد حزب العدالة والتنمية نفسه في نفس المستوى الذي انطلق منه للقيام بما كان يقوم به في المجال الشرعي، أي الإسهام بقدر معين في رعاية التوازن السياسي وصون مفهوم ومنطق التعددية وتدعيم الصيغة الديمقراطية المعمول بها… هي نفسها الأدوار الثانوية التي تقوم بها باقي المكونات السياسية الموجودة في المجال الشرعي رسميا. ومن المفهوم أن الدورة التاريخية المذكورة ليست شيئا قدريا، بل هي من إستراتيجية السلطة في بناء التوازنات داخل المجتمع السياسي كلما دعت الضرورة السياسية للحد من غلواء بعضها في الخطاب السياسي «المحاصرة والتكميم» أو في التصور الإيديولوجي «الوسطية والانتفاعية والريع» أو في التوسع التنظيمي غير المبرر «التنافس والانقسام».

غير أن الدورة التاريخية المذكورة لم تكن فارغة، أي أنها خيضت بالنسبة «للعدالة والتنمية» على امتداد ولايتين، ومورست فيها جميع الممارسات المتعلقة بقضايا الصراع والحوار واتخاذ القرارات الحاسمة، ما كان منها متعلقا بمعاش الناس واقتصادهم أو ما كان مرتبطا بالإستراتيجية العامة للدولة في إطار «النظام الرأسمالي التبعي» المعمول به في كثير من القطاعات الحيوية… وهي كثيرة، وما كان منها محسوسا أصاب المواطنين في قوتهم وحرياتهم، فغير شيئا كثيرا من واقعهم، ويبدو كذلك أنه أيقظ لديهم وعيا مضادا صار طريقتهم الخاصة في معارضة الحزب والانقلاب عليه وتسفيه تصوراته الإيديولوجية، والأخطر من ذلك، إدراك هؤلاء المواطنين للمغانم..»فاز بالشيء بدون مشقة»، وفي الذكر الحكيم: «وعدكم الله مَغَانِمَ كثيرة». الآية 20 من سورة الفتح، التي جناها البيجيديون بدرجات مختلفة مما توفره السلطة لكل برغماتي انتفاعي على قدر تفاعله مع الضرورات التي تمليها السلطة نفسها طوعا أو كرها…

هل يمكن الحديث عن تحول جذري أصاب حزب العدالة والتنمية، خاصة قياداته التي استفادت من مردودية المشاركة في تدبير الشأن العام؟

> الحقيقة أن حزب العدالة والتنمية انتقل من كونه حزب «فقهاء ودعاة» (مهما كانت درجة توافقهم الصعب مع عصرهم) منغرسين في أوساط اجتماعية مختلفة، إلى حزب انتفاعيين معزولين فرطوا، حسب المخيال الشعبي وفي الواقع كذلك، في الدين فنالوا الحياة الدنيا، وخسروا المجتمع ولم يربحوا إلا مناصبهم الزائلة… إلا قليل من أنصارهم الخُلّص «الذين استفادوا معهم ومنهم» وهكذا.

لا يجب أن ننسى أن الصورة العامة التي ظهر بها الحزب وتكونت عنه، أنه حزب قوي طاهر ورع يتمسك بالشريعة وينافح عنها طلبا لتقوى المغاربة وسعيا وراء رغد حيواتهم و»محاربة جاهليتهم»، فكان ذلك في أصل انتفاخه وتجبره وغلبة صراخ إيديولوجيته على ما عداها من الأصوات الإيديولوجية الصارخة، بالإضافة إلى السلوك التحكمي والانتفاعي لأفراده. وظني أن الضرورة السياسية، قبل فترة ما سمي بالربيع العربي وبعده، كانت ترشحه لأن يصبح الفاعل الأساسي في تدبير الشأن العام من موقع الحكومة وباقي دواليب الدولة الأخرى (بفضل التعيين في المناصب العليا، فضلا عن التوظيفات الزبونية والمذهبية في قطاعات مختلفة…). وبهذا المعنى فقد أدى وظيفة سياسية بالمواصفات المطلوبة لم يكن بإمكان أي حزب «قوي» آخر سواه أن يؤديها طوعا وبصورة تلقائية لم يتوقعها منه أي طرف. والملاحظون يحصون على الحزب في الحكومة عددا من القرارات ذات الطبيعة الاقتصادية فضلا عن الاجتماعية والحقوقية، كانت وبالا على فئات اجتماعية مختلفة نفذها بيسر وبررها بسذاجة، فأقام بذلك أكثر من حجة على أخطائه وعثراته ونواقصه…

علاقة النظام والسلطة بمكونات المجتمع السياسي «الشرعي» علاقة وظيفة ودور، ولا يمكن لأي تنظيم أوكل إليه قانون الأحزاب والدستور في المجمل تنظيم الناس وتمثيلهم إلى جانب المنظمات النقابية والجماعات المحلية والغرف المهنية، أن يتجاوز ذلك إلى وظيفة ودور آخَرَيْن دون أن يخالف القانون والدستور بطبيعة الحال، والأخطر من ذلك أنه يضع نفسه «بنياته ووجوده» خارج المجال الشرعي التوافقي المنظم على ضوء المحددات الموجبة للولاء والتسليم، فتكون بذلك نهايته «الشرعية» في الحياة الديمقراطية المعمول بها.

ولم يبق من الحزب إلا ما غنمه المنتمون إليه وفازت به قياداته، ولم يكن انكساره هزيمة مطلقة ولا نهاية مفجعة، بل فقط انتهاء مدة الصلاحية السياسية بعد انقضاء صلاحية الدور الذي أنيط به على جميع الأصعدة التي كانت تتطلب المعالجة أو الحل. غير أن المحلل السياسي سيذكر للحزب، في هذا الانكسار الدرامي، شيئا فريدا من نوعه، أي تلك السقطة التي هلل لها الناس بما في ذلك أنصاره بكثير من التشفي والاستهزاء والتبخيس… وربما كان ذلك كله في اتجاه عكسي تماما «للطهارة والنجاعة والاستقامة» التي أشاعها على نطاق واسع، بشعارات فيها الكثير من اليقين الإيديولوجي الديني، في بداية عهده بالسياسة وبالعمل الحكومي بعد الانتصار الحاسم الذي تغلب به على أقوى الأحزاب السياسية التاريخية في المغرب المعاصر.

ربط الكثيرون بين فشل العدالة والتنمية وغياب الزعيم ابن كيران، هل كان ابن كيران كافيا ليحد النزيف؟

> لا أعتبر هذا الربط مقبولا ولا منطقيا ولا صحيحا لأنه يزكي، أولا وقبل كل شيء، صورة سياسية خاصة نحتها بنكيران لشخصه أثناء توليه رئاسة الحكومة وأراد بها أن يبدو فاعلا سياسيا وحكوميا مختلفا في كل شيء، في تصريحاته الخاصة والعامة (الإعلام العمومي والحزبي)، وفي نبرات صوته وضحكه الساخر وطريقته في الاستجابة لمواقف الجد والهزل وفي صراحته المفترضة، وبالخصوص في تحقيره للمرأة ولخصومه ولعامة المنتقدين لسياسته، والتهجم على المخالفين واتهام المعارضين بالباطل ولطبيعة الإيحاءات الدينية والجنسية الساذجة وكذا لزلاته وأغلاطه الكثيرة.

بحيث يمكن القول، بدون تحفظ، إنه لم يسبق لرئيس حكومة مغربية أن كان بمثل هذا المستوى من الوقاحة – التي تعني عند العرب قلة الحياء والاجتراء على فعل القبائح – الذي تنعدم فيه السياسة وتكبر فيه العاطفة الشعبوية بنوع من اللؤم والحقد والفهلوة.. إلخ. والغريب في الأمر أن معظم هذه الأفعال هي التي أخذت باهتمام الناس وبوأته لديهم، في حال من التماهي، المكانة التي ما زالوا يتغنون بها داخل الحزب وخارجه بكثير من الافتخار والإصرار، بل ويمكن القول إنها أقنعتهم بـ»عظمته السياسية» الفريدة لأنه، في واقع الحال، لم يأت على أي مثال سابق في العهود الحكومية السالفة. ولا عجب في هذا فطريقته «الشعبوية» بوقاحة زائدة في التنفيس عن آلامهم وأحقادهم وانتقاداتهم وولائهم بطريقة تلقائية وشبه عفوية كانت مثيرة للغاية.

فغياب «الزعيم بنكيران» لتبرير انكسار الحزب برمته مَرْدُودٌ للأسباب التي ذكرتها من قبل، لأن الحزب نفسه «انكسر»، إذا شئنا القول، في مرحلة أولى يوم تخلّفَ عن إسناد زعيمه بعد أن بلغ «البلوكاج» مبلغه من الشّدة، فانقفلت الأبواب دون أن تفلح (وقاحة الزعيم) تلك في إعادة فتحها في وجهه لولاية ثانية. ويمكن القول، من الناحية السياسية،إن بنكيران هوَّ ذَاتُهُ ونفْسُه انكسر قبل الحزب مباشرة بعد فشله في الظفر بالولاية الثانية المشار إليها. ومن الأقوال الباطلة أن ما يسمى بـ»الدولة العميقة» هي التي أفشلته وكسرت شوكته لِمَا كان يتحلى به من مسؤولية وصراحة وتشدد ربما..

قد يكون، وسيكون أيضا من غير المفهوم كيف قَبِلَ بالفشل في «البلوكاج» بل وصادق بعد البكاء، ولو على مضض، على تعيين خَلفٍ له، ثم أخلد إلى التقاعد المريح الذي يأتيه من طبق ميزانية الدولة… لم يصدر عنه مطلقا ما يشكك في السياسة الحكومية لحزبه، بل وقد نجد في بعض أقواله وتصريحاته وخرجاته بالصوت والصورة ما يفيد الدعم الذي قد يحرج صاحبه إن كان صادقا، ومنها ما يتعلق بالقضايا القومية (فلسطين والتطبيع..) التي ناصر أصحابها في السابق عند الحاجة بدون قيد ولا شرط.

أريد القول إن سقوط الحزب تم بطريقة مخجلة مع وجود هذا الزعيم المُدّعى في صفوفه لا خارجه كما يمكن الافتراض. ومن الصحيح أنه بقي بدون أدنى «مسؤولية أو لقب حكومي» طالما اشتهاه، ولكنه يوجد بالضرورة في قلب الأزمة الحزبية من خلال تيار رافض مناوئ، أوْجَدَهُ هُوَّ بِنَفْسِه في صفوفه للانتقام من رفقاء دربه ولإفشال المواقف والتوجهات التي سار عليها خلفه طمعا في العودة إلى ساحة طُرِدَ مِنْهَا شَرَّ طَرْدَة.

وعموما فالحزب عندما انتهت صلاحيةُ ولايتِه، بالمعنى الذي عرضته في السابق، انهار بمن فيه لفداحة الأخطاء المرتكبة في التدبير السياسي العام، وفي انكشاف الأدوار التي قام بها لتبرير مزيد من الاستغلال المسلط على كثير من الفئات الاجتماعية، وربما أيضا بسبب النقمة التي خلفتها انتفاعيته السياسية ضدا على ما روجه، حول وجوده وقوته وصلاحه، من أباطيل وترهات انطلت لأوقات على من اعتقد واهما في روحه الدينية الخيرة.

وكيف ترون عامة ما أفرزته هذه الانتخابات وإسقاطاتها على المشهد السياسي؟

> المظهر الأول هو التغيير الذي آلت إليه الأمور بعد الإسقاط الفعلي للبيجيدي، بصرف النظر عن العوامل التي قد تكون سرّعت بذلك، ففي هذا انفراج للمجال السياسي حتى ولو انفتح على أوهام جديدة. أما المظهر الثاني فكامن في الانتظارات المابعد بيجيدية. فإذا ما وعت التشكيلة الحكومية القادمة، بصرف النظر عن الاتفاقات التي قد تتمخض عنها الاستشارات، أهمية الانطلاق مما فشلت فيه العدالة والتنمية، سواء بالمراجعة أو الإلغاء أو بالتصحيح والتتميم أو بالزيادة واقتراح مبادرات جديدة والاستئناس بمطالب الناس وفقا لمتطلبات العدالة الاجتماعية والمجالية، والأهم من منظور يتوخى تطوير الواقع للاستجابة لانتظارات المصوتين وعموم الناس، فقد يكون في ذلك أكبر الأثر على أن السياسة في تطور وأن التوجهات الكبرى التي تسنها الدولة (يقال لها التوجهات الملكية) سوف تحقق بعض التقدم المطلوب للقضاء على الأوضاع الاستثنائية القائمة في كثير من قطاعات المجتمع واقتصاده ومعاش سكانه المعوزين بشكل خاص. ثم يمكن الإشارة إلى انفتاح أفق جديد قد تتبلور فيه اختيارات أخرى، حتى ولو كانت في نطاق «النموذج التنموي الجديد»، لا تكون مصحوبة دائما بالهاجس الديني ذي الطبيعة الإيديولوجية الذي يرمي عادة إلى إقناع الناس بالمكتوب وأفضلية البعض على البعض الآخر في الرزق وما إلى ذلك مما يبرر الاستغلال والفساد والتفقير.

ما هي بتقديرك الإسقاطات السياسية لما حدث في الطريق إلى مرحلة ما بعد «البيجيدي»؟

> المرحلة الجديدة بما سيكون فيها من تطورات وتناقضات ومن أوهام كذلك، ستجعل القوى الديمقراطية (المفترضة)، حزبية وغير حزبية، في موقف خاص يمكن أن يلزمها بالتعامل مع مستجدات الوضع العام بطريقة مختلفة عما درجت عليه طوال عشر سنوات من عمر الإسلامويين والمتحالفين معهم في الحكومة. أعني أنه إذا كان من السهل في السابق معارضة البيجيدي بالوقوف ضد تأويله الديني لكل فعل سياسي، أو تسفيه اختياراته التبعية في ميادين أخرى بطريقة حدية ومطلقة، أو بغير هذا وذاك، فإن مواجهة الاختيار الحكومي المبني على تحالف مختلف (بين فرقاء متقاربين في الاختيار والقرار على الأرجح) ذي توجه تقنوقراطي ليبرالي، سيحتم تطوير الأداة الحزبية وتجديد برامج المعارضة كلا أو جزءا، بل وسيطرح على فرقاء (المجال الشرعي)، المحكوم بإكراهاته المعروفة، أن يقدروا الأمر لا من زاوية المعارضة الجادة فقط بل وكذلك من خلال تطوير الأداة الذاتية، حزبية ومدنية، في المواجهة، بالإضافة إلى فرز اختياراتها المقبولة في علاقة بتطوير التجربة الديمقراطية نفسها والتخفيف من الإكراهات التي تفرضها عليها الاختيارات الدولتية، فتفرغها من محتواها أو تحولها إلى أداة زجرية في وجه مختلف المعارضين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو المدنية. قصدي أن أقول إن معارك المعارضة القادمة في مواجهة السياسة الحكومية ستكون حتما على قاعدة «النموذج التنموي الجديد» وفي مواجهة اختياراته «الليبرالية». وبالقدر الذي سوف يوضع به هذا «النموذج»على محك الاختبار الفعلي في المجال الاقتصادي والاجتماعي والاستراتيجي… قد تتحدد ضمن دورة تاريخية متجددة مرة أخرى (الصلاحية الجديدة) التي يمكن أن تُعطى «للتحالف الحكومي» الذي سيقود المرحلة القادمة من عمر الولاية التشريعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى