جهات

الخريطة الأثرية لساحل الريف: دراسة تاريخية وأثرية

462c5f12-016b-4ac0-8139-ba2220f7b7a1

خديجة الخديري

نوقشت يوم السبت 6 فبراير أطروحة دكتوراه في التاريخ والآثار بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية تقدمت بها الباحثة خديجة الخديري حول موضوع: الخريطة الأثرية لساحل الريف: دراسة تاريخية وأثرية

. وقد توجت لجنة المناقشة هذا العمل بميزة حسن جدا مع تهانئ اللجنة وتوصية بنشر الأطروحة حتى تعم الفائدة.

تم اختياره كموضوع لكونه يتيح الدمج بين مصدرين أساسين في عمليات التأريخ، وهما المصادر التاريخية والأثرية، سعيا وراء تجميعها ودراستها للخروج بخلاصات تساعد في بناء تصور عام للتطور الحضاري المنطقة. وقد ركز البحث على دراسة مجال مهم في تاريخ البلاد، وهو مجال ساحل الريف، مجال تختلف حدوده حسب طبيعة الدراسة المهتمة به، لذا حددناه في النطاق الذي شملته أبحاث البعثة الأثرية المغربية الإيطالية في الريف، أي المنطقة الممتدة ما بين نهر ملوية شرقا إلى ضفاف وادي بوفراح غربا. وتكمن أهمية البحث في كونه لا يهدف إلى إعادة صياغة ما تتداوله الدراسات الحديثة من أطروحات حول المنطقة، بل يسعى لتتبع الإشارات التي وردت في المصادر المكتوبة وربطها بما تقدمه نتائج الأبحاث الأثرية، من أجل دراسة وتوضيح تاريخ المنطقة. لذا يمكن الحديث عن مستويين أساسيين:

  • مستوى تاريخي: يسلط الضوء على السيرورة الحضارية في هذا الجزء الهام من البلاد، عبر تنويع المصادر للقيام بدراسة ذات مصداقية للمنطقة.
  • ومستوى مرتبط بالهوية الوطنية والمحلية باعتبار دور ومساهمة التوثيق في الحفاظ على هذه الهوية من الاندثار والنسيان خاصة وأن الظروف الطبيعية والبشرية تساهم في طمس جزء كبير من المعالمها الحضارية. مع التركيز على أهمية إدماج هذا الموروث في تحقيق تنمية بشرية فعلية بالمجال.

تطرح عمليات التوثيق إشكاليات عديدة، سواء فيما يتعلق بالمصادر المكتوبة وما يعتريها من تناقضات، أو المصادر الأثرية وما تطرحه من تساؤلات حول ماهية المواقع ومدى قدرة اللقى الأثرية على التأريخ لها. هذا إضافة إلى مجموعة من القضايا من قبيل انسجام معطيات النصوص مع الشواهد الأثرية حول أهمية التعمير بمنطقة الريف، وإمكانية وضع خريطة واضحة المعالم استنادا إلى ما تقدمه النصوص ونتائج البحث الأثري فضلا عن مدى مساهمة عمليات توثيق ودراسة هذا الموروث الحضاري والعمراني لمنطقة الريف أن في الحفاظ على الهوية المحلية للمنطقة التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الهوية المغربية؟

اعتمدت المنهجية المعتمدة على الخطوات التالية:

  • جمع النصوص المتعلقة بالريف وتصنيفها حسب التسلسل الكرونولوجي للرواة، وتتبع نتائج البحث الأثري وتصنيفه هو أيضا حسب أهمية المعلومات التي يقدمها. وتم الاعتماد هنا على نتائج التحريات التي أجرها فريق البحث المغربي الإيطالي بمنطقة الريف كأساس لبناء قاعدة بيانات تضم كافة الإشارات الأثرية والتاريخية.
  • قراءة ووصف نتائج هذا التوثيق. وقد طرحت هذه الخطوة جملة من الإشكاليات المرتبطة بتوثيق التي كان من اللازم الوقوف عندها قبل تقديم أي خلاصات لنتائج هذا البحث.
  • دراسة نتائج عمليات التوثيق للخروج برؤيا واضحة لمسار التطور الحضاري بالمنطقة، ووضع خريطة عامة تعكس خلاصات هذا التطور.

نتائج البحث: سمحت عمليات وخطوات البحث بالخروج بمجموعة من النتائج التي يمكن عرضها حسب الفصول كالتالي:

الباب الأول: خصص للتأصيل الجغرافي والببليوغرافي لمنطقة الريف. تناول الفصل الأول فيه الإطار الجغرافي لمنطقة الريف باعتبار أن دراسة التاريخ دائما ما ترتبط بتتابع الأحداث والوقائع في ارتباطها ببعدين أساسيين: الزمان والمكان. فالحدث التاريخي هو فعل وقع في مجال وزمان معينين، ولا يمكن فهم السيرورة التاريخية للفعل الحاصل دون الوقوف على خصائص هذين المكونين. ويعد مجال الريف من المناطق التي تطرح العديد من الإشكاليات التاريخية والجغرافية، التي سعى الفصل للإجابة عنها.

واهتم الفصل الثاني بعرض موجز للأحداث التاريخية الكبرى التي طبعت تاريخ الريف، فقد أكدت نتائج الأبحاث الأثرية على قدم التعمير منذ فترة ما قبل التاريخ، كما أنها فندت الاعتقاد السائد بأن سواحل الجهة لم تحتك بالحضارات المتوسطية القديمة خاصة بعد اكتشاف موقع سيدي ادريس الأثري الذي عثر به على مستويات تعود للعهود الفينيقية والقرطاجية والمورية. أما في الفترة الإسلامية فقد انتظمت المنطقة منذ زمن الفتوحات الأولى في إطار إمارة بنو صالح، وسمحت لها أهميتها الاستراتيجية بلعب دور طلائعي في تاريخ المغرب خصوصا، وتاريخ منطقة شمال إفريقيا عموما، فانتقلت من مجال للعبور بين ضفتي الدولة الإسلامية الشمالية والجنوبية، إلى منطقة لمواجهة الغزو الإيبيري ثم الاحتلال الأجنبي. هذه الأدوار جعلتها دائما في قلب الصراع بين القوى الخارجية الفاعلة في غرب المتوسط، كما لعبت دورا كبيرا في صراع القوى الداخلية المتعاقبة على حكم البلاد منذ عهد الأدارسة ووصولا إلى العلويين.

في حين شكل الفصل الثالث مجالا لدراسة مسار تطور الأبحاث التي اهتمت بالمنطقة لتكوين نظرة أكثر شمولية لتاريخ البحث التاريخي والأثري بالمنطقة، وفهم الأيدولوجية التي أطرته ووضعت بصماتها على خلاصاته من جهة. ومن جهة أخرى تتبع تطور منحنى هذا البحث كما وكيفا منذ بداياته الأولى، خلال القرن التاسع عشر مع تزايد حدة التنافس الإمبريالي. ومرورا بفترة الحماية التي شهدت تزايد الاهتمام الإسباني والفرنسي بمنطقة الريف، وصولا إلى تتبع مساره في مرحلة ما بعد الاستقلال. إلا أن أهم ما يمكن تأكيده من خلال هذا الفصل هو قلة هذه الأعمال، إضافة إلى أن العديد منها ما زال ولحد الساعة حبيس رفوف المكتبات.

خصص الباب الثاني لعرض ودراسة نتائج التوثيق التاريخي والأثري لمنطقة الريف: حيث تناول تتبع الفصل الأول نتائج التوثيق التاريخي لساحل الريف، عبر عرض كافة المعلومات التي قدمتها المصادر المكتوبة القديمة والوسيطية وصولا إلى الوزان. وهي معلومات سمحت بتأكيد أهمية الحركية التاريخية والحضارية للمجال، ووفرت أسماء العديد من المراكز التي اختلفت أهميتها عبر العصور. انطلاقا من رواية سترابون التي تحدثت عن توالي المدن والأنهار ما بين مضيق الأعمدة ونهر ملوية. وفي المصادر العربية الوسيطة من اليعقوبي والإصطخري، إلى البكري الذي قدم لائحة هامة بأسمائها. ثم الوزان وكربخال اللذان أكدا على ضعف النمو الحضاري للمنطقة في عهدهما. وبين النمو والاضمحلال الذي عرفه المشهد العمراني بالمنطقة، تتوالى مجموعة من الاحداث التاريخية التي ألقت بظلالها على مراكزه الحضارية ومفسرة هذا التناقض. أما الفصل الثاني فقد سمح بالانتقال إلى رصد نتائج التوثيق الأثري للمنطقة، وهو جرد أفضى إلى توطين عدد مهم من المواقع التي تم التأريخ لها بمختلف الحقب التاريخية. وخلال هذا الفصل اعتمادت نتائج أبحاث البعثة الأثرية المغربية الإيطالية كأساس للعمل، والتي سجلت وجود 233 موقعا موزعة حسب الخرائط الطبوغرافية.  

أما فيما يتعلق بالتحقيب التاريخي للمواقع. فرغم الاشكاليات التي تطرحها طبيعة اللقى الأثرية والتي لا تسمح في العديد من المرات بتحديد تأريخ دقيق للمواقع الأثرية فتم التأريخ لها كالتالي فنلاحظ أن عددا كبير منها غير محدد. نفس الشيء يمكن قوله عن طبيعتها الوظيفية حيث تبقى المراكز الغير محددة هي المهيمنة تليها البنية السكنية. وعموما تعكس نتائج البحث الأثري أهمية الحركة العمرانية التي شهدها مجال الريف منذ أقدم العصور، كما تسمح لنا بوضع خريطة شاملة له يمكن من خلالها ملاحظة أهمية نتائج المسح الاثري بالمنطقة والتي تعكس الازدهار الحضاري بساحل الريف.

وانطلاقا من نتائج الفصلان السابقان تم تخصيص الفصل الثالث لدراسة خلاصة ما قدمته مختلف المصادر والمراجع من معلومات وما طرحته من إشكاليات في مختلف الحقب التاريخية:

الريف، المواقع القديمة: أكدت نتائج البحث الأثري المعلومات التي قدمتها المصادر القديمة عن أهمية النشاط العمراني الذي شهدته المنطقة في تلك الفترات. فإلى جانب مدينة روسدير التي لعبت دورا تجاريا هاما في تاريخ المغرب القديم، أثبتت الأبحاث وجود مركز حضاري بمنطقة سيدي إدريس والذي يمكن أن يطابق مدينة أكروس. وإلى جانب المراكز الحضارية لا ننسى أيضا الأهمية الفلاحية للمنطقة خاصة عند وادي ملوية (طريفة) الذي تنتشر قرب ضفتيه مجموعة من المواقع الأثرية القديمة، التي قد تكون عبارة عن مزارع استغلت هذا المجال في الفترات القديمة.

الريف، المواقع الوسيطة: أما بالفترة الوسيطة فمن المؤكد أن مجال الريف شهد حركة عمرانية هامة لم ترصدها فقط مؤلفات الجغرافيين والمؤرخين، بل أكدتها أيضا نتائج البحث الأثري. حيث يسجل مجال كل من خرائط بودينار والحسيمة ثم بني بوفراح وجود عدد مهم من المواقع. وهذا لا يعنى أن باقي المناطق كانت أقل تعميرا، لكن لأن الأبحاث الأثرية ركزت أكثر أعمالها في مجال كبريات المدن التاريخية للمنطقة كنكور ومليلية وبادس.

أما فيما يخص البنية الوظيفية للمواقع الأثرية، فنجد غلبة للمواقع السكنية والجنائزية خاصة الأضرحة والرباطات تليها التجهيزات المائية وأخيرا البنية الدفاعية.

  • الريف، المواقع الحديثة: في الفترة الحديثة عرف المجال حركية حضارية هامة، فرصدت المصادر التاريخية هذه التحولات، وأشارت إلى أهم التعزيزات التي أقامها سلاطين البلاد، ورسمت صورة عن حجم الدمار الذي طال العديد من المراكز الحضارية. وقد أكدت المصادر الأثرية هذه التحولات فتم رصد العديد من المواقع التي ترجع إلى الفترات الحديثة، من قلاع وقصبات وأبراج دفاعية. وهنا أيضا من خلال ملاحظة البنية الوظيفية للمواقع نجد ارتفاعا ملحوظا للبنية الدفاعية مع تراجع ملحوظ في البنية السكنية.

من خلال تتبع مسار التطور التاريخي للمشهد العمراني بساحل الريف، يمكن ملاحظة التحول الذي تميزت به الحركية الحضارية في المنطقة، سواء فيما يتعلق بأهميته أو بنيته الوظيفية. ففي الفترات القديمة، عرف الريف نشأة العديد من المحطات التجارية التي سمحت بالانفتاح على حضارات العالم المتوسطي القديمة، كان من أبرزها موقعي روسدير وسيدي إدريس (أكروس). وفي الفترة الوسيطة وانضواء عدوتي المتوسط تحت لواء الدولة الإسلامية، أصبحت المنطقة صلت وصل بين المجالين، أدى ذلك إلى ظهور عدد من المدن والمراسي التي عكست أهمية الازدهار العمراني، وببداية الفترة الحديثة، أصبح المشهد يأخذ معالم جديدة عبر تعزيز التحصينات وبناء القلاع والأبراج. وقد ظل الحس الدفاعي هو الهاجس المهيمن في المنطقة لعهود طويلة، جعلت المنطقة تسجل حضور مراكز عمرانية صغيرة ومتفرقة مرتبطة غالبا ببناء دفاعي يحمي السكان من هجمات الأعداء.

الخلاصة العامة: تثبت نتائج هذا البحث أهمية الرصيد الأثري الذي يزخر به ساحل الريف خاصة على المستوى الرمزي. لكونه يلخص مجمل التطور التاريخي للمغرب عموما، لكونه يضم بعض المواقع الكبرى كنكور التي تعتبر أول حاضرة إسلامية بالمغرب الأقصى وموقع سيدي ادريس من أقدم المواقع الأثرية بغرب الحوض المتوسطي. يضاف إلى ذلك العديد من المراسي البحرية التي لعبت أدوارا هامة في تاريخ المغرب الاقتصادي، كالمزمة وبوسكور وغساسة … ناهيك عن بعض المواقع التي اشتهرت لقيمتها الدينية والروحية كمدينة بادس. وعلى الرغم من أهمية هذا الرصيد لا تتضمن المنطقة أي موقع مرتب في قوائم التراث الوطني. بل إن جلها تتعرض للتلف في غياب أي اهتمام بالمحافظة على هذا الإرث التاريخي.

إن أهمية البحث تكمن في أنه يوفر أداة عمل مخصصة للرصيد الأثري والتراثي الهائل لساحل الريف والذي بإمكانه أن يلعب دورا هاما في في تنمية منطقة الريف، بل والمغرب عموما. ولا شك في أن ذلك يتطلب اعتماد مقاربة شمولية تهدف إلى حشد الدعم في إطار تشاركي لبناء استراتيجية تشاركية مع كل الأطراف المعنية، لاستغلال الخريطة الأثرية للريف بشكل عقلاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى